الجمعة، 21 ديسمبر 2012

طريد الجنة .. قصة "مش" قصيرة

في تلك المدينة النائية حيث يجري دين الله بين الناس ، يتوارثونه جيل بعد جيل منهم من يرثه عن فهم ، و منهم من يرثه مع ما يرث من والديه من أثاث و مال .. و كان هذا الذي لم يكمل عامه العشرين بعد مسرفا في خطاياه و ذنوبه ، لم يؤد فريضة قط .. إنه بعيد عن الله أبعد ما يكون ، فكان إذا ما ذكر اسم الله أمامه لا يلقي له بالا ، فهو كان يكاد أن ينكره

و لكن لله أمور لا يعلمها إلا هو ، فقد بدأ يدب في قلب الفتي نورا ، أن يبحث أكثر عن الله ! ، ليس ذلك الأسم الذي أعتاد قومه أن يعبدوه ، و إنما يبحث عن الخالق المستحق للعبادة عن فهم و إيمان و عقيدة
و لكن القدر لم يمهله فقد قبض عليه يوما مخمورا ،  فقُدم للمحاكمة أمام رجال الدين ، فأقاموا له محاكمة قاسية جهر خلالها بأفكاره .. فلم يناقشوه و لم يمنحوه فرصة يدافع عن نفسه أو يتوب ، و إنما قضي عليه بأنه آثم ضال لا يصح له توبة ، و حكم عليه بالخروج من المدينة معزولا منفيا

خرج الفتي من المدينة لا يعلم إلي أين يذهب ، هل قُضي عليه الموت ؟ ، هل لفظه الدين بعد أن كاد أن يصل ؟ هل رفضه الله بعد أن كاد يدركه بقلبه قبل عقله !!
سار هائما علي وجهه حتي وجد منزلا محاط بالصحراء من كل جانب ، فتقدم ببطيء و طرق الباب ، فإذا برجل قد أفناه الزمان يفتح الباب و لم ينتظر أن يتكلم الفتي ، فأشار له بالدخول.

لم يجد الفتي مناص من أن يدخل مهما يكن من أمر الرجل فهو البديل الوحيد للموت . و ما أن دخل الفتي حتي أخذته الدهشة فقد وجد ذلك العجوز عاكفا علي الخمر ، بيته لا يوحي بأي مظهر من مظاهر الصلاح ، فقطع الرجل تأملات الفتي قائلا:
- لابد أنك طُردت مثلما طُردت أنا من عشرين عاما !
- نعم لقد طردني أهل تلك المدينة دون أن يستمعوا إلي دفاعي حتي ..
- أعرفهم جيدا لا تبتئس و لا تحزن .. ثم صمت برهة و عاد يقول بصوت متهدج: و ماذا ستفعل الآن؟
- سأبقي هنا ..
- بل ، لابد أن تعود إليهم و تتوب إلي الله

تملكت الدهشة قسمات وجه الفتي و قال:
- أنت الذي تنصحني بذلك ؟ ، لقد رفض أهل الدين أن يمنحوني تلك الفرصة
- لا وصايا لأحد علي دين الله ، فدين الله فقط لله ، توب إليه و هو سيقبل توبتك إن كانت صادقة
- و لكن .. كيف تنصحني أنت أيها الشيخ الفاني و أنت ..
- و أنا عاصي أليس كذلك ؟
- حقا !!

اعتدل الرجل في جلسته و أراح ظهره إلي الوراء و قال:
- لا تتعجب فكي يدخل مثلك الجنة لابد لمثلي أن يدخل الجحيم !! .. و لو أن أهل الأرض جميعهم أمنوا وعملوا الصالحات و دخلوا الجنة فما جدوي الدنيا ؟
- ما أعجبك ! و هل تنتظر مني أن أسمع نصيحة من مثلك ؟ ، فأنت قد عصيت الله فطُردت مثلي فلما لم تتوب ، و ما جدوي توبتي الآن ؟
انزعج العجوز و هتف في وجه الفتي:
- لا .. لا يا بني ، لا تعيد سيرتي
إياك أن تيأس ، إن اليأس هو الموت .. الناس موتي و هم أحياء متي يئسوا ، و انا ميت هنا منذ زمن بعيد ..
- و لكنك مازلت حيا ! لماذا لا تعود و تتوب ؟

فأربت الرجل علي كتف الفتي و قال باسما:
- الموتي لا يعودون إلي الحياة أيها الفتي الطيب
- أنت هنا حكمت علي نفسك بالجحيم و تدعوني للتوبة ، و هم هناك يدعون إلي الجنة و يرفضون توبتي ؟!
- لا تتعجب ، فرب أن يزيد عاصي مثلي المهتدين واحدا ، خير من أن يزيد مهتدي مثلهم العصاة واحدا !
ثم جذب العجوز الفتي من يده و عاود حديثه إليه و لكن في نبرة بها غلظة حانية:
- هيا لا مكان لك في هذا البيت من الآن تب إلي الله ، و عد إلي أهل مدينتك
- أأعود إليهم مجددا بعدما أتهموني بالكفر و طردوني ؟
- أجل ، عد إليهم و أعبد الله معهم بقلبك و بعقلك ، فعسي أن تجد عاصيا بينهم في قلبه ذرة من حب الله ، فترده إلي الله قبل أن يقضي قومك بغلظتهم علي ما تبقي فيه من إيمان ..

(( انتهي ))

الأحد، 2 ديسمبر 2012

عصر اللا أنبياء ح 1 .. الأصنام !


يراودني تساؤل دائم حول أحوالنا في هذا العصر ، إن أهم ما يميز عصرنا هذا أنه لا يعيش بيننا أنبياء ، بل و إننا نعلم أنهم لن يأتوا و أن عصر الأنبياء قد انتهي ! ، فإن هذا يفتح لنا أبواب من الإجتهاد و من التأمل ، فربما وجودهم كان سيفسر لنا أمور كثيرة و سيحسم لنا أمور أخري ، إنها سلسلة من المقالات نتناول فيها بعض جوانب ذلك العصر ، عصر اللا أنبياء ..


الأصنام !


لو كنت من هواة التصفيق و العشق المطلق سواء لإنسان أو شيء مادي أو حتي فكرة و رأي ؛ فلا تكمل معي بعد هذه الكلمة ، فربما كلماتي لا تروق لك فأنا أتحدث إلي الباحثين عن الحقيقة ، فهي هواية ليست سهلة تحتاج مجاهدة النفس قبل مجاهدة العقل .. و إن أشد أنواع الجهاد لهو ذلك الجهاد الداخلي بينك و بين نفسك ، و بينك و بين عقلك ، لا ذلك الذي بينك و بين الناس.
و لذلك كان قول الرسول الكريم: "ليس الشديد بالصرعة ، و لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب"

فما ارتفع الإنسان مكانة بين المخلوقات جميعا إلا لتلك المقدرة ، فالحيوانات جميعها تتناحر جهادا في سبيل الطعام و الجنس و الأمان !
فإن تناحر الإنسان حتي و لو كان من أجل فكرة فهو هبوط نوعي إلي درجة من درجات الحيونية ، فلا توجد فكرة حقيقة بالتأييد المطلق .. ثم إن التناحر هي لغة القوة لجأ إليها الحيوان لأنه يفتقد العقل ، فجسده هو كل ما يملك كي يدافع عن أفكاره المادية - الشهوات - فيُفني الغير ليحافظ عليها .. أما و إن خاطبنا العقل فهي لغة الإقناع و الحجة و يمكنك أن تجعلني أعتنق فكرتك إن أثبتَّ لي صدقها ، وكذلك العكس.

إن للأفكار شهوة مثلها مثل الطعام و الجنس أعرف هذا تماما ، نحن فطرنا علي أن نشتهي الشيء و إلا زهدنا فيه !
و من هنا كان البحث عن الحقيقة وسط أصوات الحمقي من جهة و أهواءك أنت الشخصية من جهة آخري مسألة لا تتيسر إلا لمن يدأب التجرد من أهواءه. هل لي أن أخبرك بسر قد لم تلتفت إليه يوما ، هل تعلم أنك لا تنتمي إلا نفسك ؟! نعم انت لا تنتمي لفكرة أو دين أو وطن إلا لأنه يعبر عنك ! لأنه التيار الذي لقي في نفسك هوي و وافق عقلك.

فانت تحاول دائما إثبات أنك ( او ما تنتمي له ) هو عين الصواب و أن الباقين مساكين لا يدركون الحقيقة التي أدركتها أنت بألمعيتك و ذكاءك ! ، شد ما تكون علي باطل إن جرفتك نفسك لهذا الشعور. فإن الأفكار جميعها صوابا و خطأ و لكن كل شيء صحيح إلي حد ما ، خاطيء إلي حد ما ..
لا يوجد حزب أو فصيل أو فئة دائما علي صواب ، و لما كان الأنبياء معصومين من الخطأ فكان ذلك بقدرة ربانية لا يمنحها الله إلا فيما ندر لحكمة معينة في زمن محدد ، بعد ذلك فكل شيء قابل للجدال و النقاش ، و كل إنسان يخطيء و يصيب.

و لكننا الآن في عصر اللا أنبياء ، و في مثل هذا الزمان لا يمكننا ان نتعيين الحقائق علي وجه الدقة و إنما فقط يكفينا ان نتحسس موضع من مواضع الحقيقية فلا نعلم إن كان قد هدانا الله لها أم لا !

فصراع العقل مع النفس هو الصراع الحقيقي للإنسان لا تلك الحروب الشعواء و لا ذلك العراك الهمجي ، والعقل الواعي هو القادر علي احترام الفكرة و لو لم يؤمن بها كما يقول أستاذنا نجيب محفوظ . فاحترامك للفكرة لابد و أن يسبق إيمانك بها ، لأن الاحترام وعي فإن أمنت بلا وعي فهي عقيدة مزعزعة تدفعها الأفكار الأخري لمنطقة التناحر لا تسمو بها للنقاش العقلي الهاديء.
إربأ بنفسك أن تذل قدميك في صراع لا يسمن و لا يغني  من جوع تكن دائما من جنود الحق.

الاثنين، 1 أكتوبر 2012

الآن النهاية .. قصة "مش" قصيرة

العبرات تتساقط من عين الفتي الصغير وداعا لأمه التي لا يعرف لماذا ذهبت و تركته مع أبيه وحيدين ! ..
الأب يكفف دموع ولده و يواسيه بنبرة حانية:
- هون عليك يا صغيري .. إن والدتك اليوم في مكان أفضل
- أوا تحت الثري أفضل من فوقها يا أبي ؟!!
- حقا .. إن جسدها الآن تحت الثري ، و لكن روحها الآن بين يدي خالقها ..
- أنا لا أفهم كثيرا ما تقول يا أبت و لكني أفهم جيدا أنني لن أرى أمي بعد اليوم ..

ثم عاود البكاء ، تأثر الأب لدموع ولده و لم يتمالك نفسه و قد أغرورقت عيناه بالدمع فتجلد ثم حاول التخفيف من آلم الصغير قائلا:

- اسمع .. عندما توفيت أمي ظننت أن العالم لن يبتسم لي بعد يومي ذلك .. تمنيت لو شاركتها لحدها ! ..  و لكن يا بني الدنيا تستمر لم أنسي أمي و لن ننسى أمك و لكن لابد أن نعيش و لابد أن يظلوا أجمل ذكرى في قلوبنا ..
يسمع الابن أباه حتي فرغ من حديثه ثم قال:
- عجبا لتلك الحياة نعيش فيها و كأننا نملكها فإذا متنا لا نساوي فيها أكثر من أجرة حانوتي يتولى دفنك ، و عدة أمتارمن قماش أبيض يسمونه كفنا ، و حفنة تراب و وجبة شهية لدود الأرض ، و عند الحكومة ورقة عليها دمغة تثبت أني ميت ، و عند الأقارب و الأصدقاء مجموعة ذكريات و مواعظ تندثر يوما تلو الأخر حتي تختفي ...

" يا لهذا الفتي الذكي .. " قالها الأب كالمتحدث لنفسه ثم ألتفت إلي ولده و قال

- تلك سنة الحياة ، إننا نشيع موتانا بالدعاء راجين لهم المغفرة ثم نمني أنفسنا بحسن الخاتمة ، حتي يشيعنا من يرجو لنا ما كنا نرجوه لمن سبقونا ثم يمنون أنفسهم بعين ما كنا نمني به أنفسنا !
- وما الحكمة من الحياة إذا ؟!!

يا لسخف الصغار .. يسئلون ببراءة أسئلة عجز أعتي الفلاسفة الجواب عنها !

- أسمع يا بني .. ألست مؤمنا بالله ؟؟
- بكل تأكيد فلا يمكن تصور كون بدونه ، فلا مصنوع بلا صانع .. و لا يمكن أن يوجد مصنوع بتلك الدقة عشوائيا !
- كم أحترم عقلك يا ولدي .. إذن فأسمع
إن للسماء أسرار ، و إن السماء لا تبوح بأسرارها لأهل الأرض إلا فيما ندر يا صديقي الصغير ، و لو فعلت غير ذلك لأنهت اللعبة قبل ميقاتها المعلوم !!
- حسنا فهمت يا أبي ..
- الحمدالله .. و الآن قل لي أتدري متي تنتهي علاقة الإنسان بالحياة ؟؟
- عندما يموت !
- بل عندما يفهم أن في الحياة حكمة لا يدركها .. فكم من حي في القبور لأنه فهم و كم من ميت علي ظهر الحياة لم يعي شيئا !
- فهمت يا أبي فهمت .. إذا الآن النهاية ..

الجمعة، 21 سبتمبر 2012

لعبة الشيطان .. قصة "مش" قصيرة

رجل ممن يعشقون الغوص في المجهول ، تأخذه قدميه الي حيث لا يذهب الناس ..
أخذته قدميه الي ذلك البيت المهجور ، الذي لا يفكر أحد في أن يقترب منه بعدما أثير حوله من أساطير .. حسنا سيقترب لا يحسب أنه قد يحدث أمر جلل ، اقترب الرجل من باب المنزل فسمع صوت من وراء الباب مستغيثا يقول:
- هل من أحد قريب هنا ؟؟ .. أنقذوني .. أغيثوني ..
فزع الرجل أول الأمر و لكن سرعان ما ثاب الي رشده و تمالك قواه و قال في شبه تماسك:
- من ؟؟! ..
فرد الصوت:
-أنقذني .. أنا محبوس هنا .. الباب لا يُفتح الا من الخارج .. أنقذني أتوسل إليك ..
تردد الرجل أول أمره و لكن ليس من المروءة أن لا تستجيب لمستغيث .. بذل الرجل مجهودا كبيرا ليفتح ذلك الباب الموصد  تحت استغاثات المستغيث المتواصلة و أخيرا نجح في أن يفتحه .. فقام بفتح الباب رويدا رويدا و هو متحفز للهروب أو المواجهة إن لزم الأمر !

يفتح الباب فيري ورائه ملامح لا يتبينها و لكن المستغيث لا يتحرك .. فقط يقول في صوت مطمئن:
- الشكر كل الشكر لك يا هذا .. أنت أعدتني للحياة
- لا شكر علي مروءة .. و لكن قل لي ما قصتك ؟؟
-لا تسأل كثيرا فربما إجابتي لا ترضيك ! ، المهم أني أريد أن أكافئك
- لهجتك تثير في نفسي ما لا يحمد .. من أنت و ما الذي تستطيع أن تكفئني به و أنت في تلك الحالة الرث !
- أنا أستطيع أن أمنحك كل شيء .. أي شيء .. فقط لا تسأل و تقبل مني مكافأتي ..
- لن آخذ منك شيء قبل أن أعرف من تكون !!
- حسنا .. ابن آدم يضيع وقته في السؤال كثيرا و عندما يعرف الجواب لا يرتاح له بال !
- إن لم تجبني لأغلقت عليك الباب من جديد !
- لن تستطيع ، و علي أية حال سأجيبك لتعلم أنني بعدم جوابي كنت أريد لك خيرا .. أنا الشيطان يا هذا !

سرت رعدة في جسد الرجل ، و امتزجت كل التعبيرات علي وجهه .. فكر أن يهم بالهروب و لكنه تجلد من جديد و أظهر تماسكا جديدا و قال في نبرة حادة:
- لو أنني أعرف ذلك ما أخرجتك من محبسك أيها الرجيم !
- ولكنك أخرجتني .. أصبحت صاحب معروف عليّ ولك المكافأة
- و هل يرجي خير ممن لا خير فيه !!
- فلتعرف ما هي المكافأة و لتقرر بعدها تقبلها أو ترفضها
- هات ما عندك
- أني سكافئك بشيء لم يسبق لبني جنسك أن ناله .. سأمنحك الخلود .. ما رأيك ؟؟

أطرق الرجل .. فقد بدا علي رأسه علامات استفهام كثيرة أخفاها جميعا و هم أن يجادل قائلا:
- و لكن ...
فقاطعه الشيطان قائلا:
- نسيت أن أقول لك أني لا أطيق ذرعا بالسؤال الكثير .. و نسيت أقول لك أنه شرطي الوحيد إن كنت تريد المكافأة أن لا تسأل
فعاود الرجل إطراقه و فكر مليا ثم عاد الي محاوره الرجيم يقول:
- حسنا .. قبلت و لكن بشرط
- نسيت أن أقول لك أيضا أني لا أحب أن يملي أحد عليّ شرطا و لكن قل لي ما هو ؟؟!
- أن تنساني تماما فيكون هذا لقاءنا الأخير
- هذا شرط بسيط و لكنك ستحتاج إليّ يوما ثق في هذا ..

أتفق الطرفان علي كل بنود الاتفاق و ذهب كل منهما الي حياته و مرت السنون و نسي معها الرجل لقاءه بالشيطان و لكنه لم ينسي أبدا مكافأته ، كيف ينساها و هو ينعم بالخلود ! .. هو لن يموت ، إنه دائم الحضور ..
الوقت يمضي و صاحبنا ينعم و لكن النعيم لا يدوم ثق في هذا دائما يا صاحبي !

الرجل يستدعي الشيطان بعد مائة و خمسين عاما من لقاءه الأول .. و يبدو أن كليهما لم يتغير ، يبدوان كما كانا في لقاءهما الأول فبادر الشيطان قائلا:
- أنت الذي خالفت الشرط الذي أمليته عليّ .. عموما خبرّني لماذا دعوتني لأنْ ألقاك !
- دعوتك لتخلصني من مكافأتك الملعونة أيها الرجيم !
- ملعونة ! .. أنا منحتك الأبدية منحتك الخلود .. منحتك قمة النعيم
- كان يجب أن أفطن الي لعبتك .. بل هي قمة الجحيم والله ..
- كيف يا هذا .. إن الخلود لا يكون الا للآلهة ! .. إني جعلت منك إلها علي الأرض
- إن الخلود لو كان لمن لا حدود له ... لمن يملك .. فسيجعل منه إلها ، أما الخلود لو كان لمن يقيده الزمان و المكان .. لمن لا يملك شيئا فسيجعل منه  حجرا .. حبة رمل .. نقطة  ماء في بحر خالد !!
- قل لي ما الذي حدث معك ؟
- أنت تعرف معني أنك لا تموت ؟ أن كل شيء من حولك ينتهي و تبقي أنت الباقي ! .. معني اللا موت أنك لا تعتبر من شيء ، معناه أنك لا تحرص علي شيء ، معناه أن الخوف يموت بداخلك و معه يموت الأمل ، معناه أنه لم يعد هناك فرق بين الغد و اليوم و أمس كلهم سواء ، معناه أن تموت مشاعرك فلا تأسف لمن يموت و لا تفرح لمن يولد ، معناه أن الشر ينتصر فلا هناك ساعة للحق ترد فيها المظالم ، معناه أن الحياة حدثا ممل تفعله يوميا كما لو كنت ألة ، معناه إنك حضور دائم هل تتصور هذا ؟؟ حسنا سأخبرك ، تصور أن إنسانا منذ أن ولد حتي مات لم ينم لحظة !! .. هو وجود لا يغيب !! .. إن هذا الشعور سيدفعك يوما الي الجنون و لا شك !
معني الخلود أن لا شيء له قيمة ، فإننا ندرك قيمة الأشياء لأنها تفني .. و كيف للخالدين أن يدركوا الفناء .. لماذا أعيش أنا الآن قل لي

يسمع الشيطان هذا الحديث الطويل و تند فمه عن ابتسامة خبيثة يقول بعدها:
- تعيش كي تنعم .. تتمتع
- حتي هذه المتعة فُقدت .. الحياة أن يخالط الأمل الألم ، فلا بالألم وحده يمكن لإنسان أن يحيا و لا بالأمل وحده يمكن لإنسان أن يحيا
- أنت كثير الكلام .. ماذا تريد الآن ؟؟
- أريد أن أموت !
- عفوا لقد منحتك شيء وأنت قبلته .. لتتحمل يا صديقي ما أخترت لنفسك .. نسيت أن أقول لك أيضا إنني لا أحب أن أضيع وقتي في أشياء لا تفيد فلدي ملايين من البشر يحتجونني الآن كي أمنحهم متعة كالتي أعطيتك مثلها ..
- يالك من ملعون .. ليتني لم أنقذك ....

قالها في حسرة فادحة .. فرد عليه الشيطان و هو يهم بالانصراف:
- أرجو أن لا تستدعيني مرة ثانية فلا تلبية لدعوتك بعد اليوم .. الي لقاء لا أعرف ميعاده يا صديقي
أختفي الشيطان و أحس الرجل بخدعة الشيطان .. بتلك اللعبة التي لعبها فخدعه بأسم الخلود و سلب منه الفناء !
فبكي الرجل محترقا و ظل يردد:
- إنه الجنون ، لابد أني سأجن يوما
الويل لمن لا يعرف أن في الموت نعمة .. و أن في الفناء حكمة !!

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2012

ورقة نتيجة !

الأيام .. الشهور .. الأعوام هي ليست حروف متراصة تصنع كلمة .. و لا هي دقائق متلاحمة تصنع حدثا سرمديا لا مبلغ لنهايته ولا بدايته
الزمان ليس هو الساعة التي في يدك .. ليس موعد الذهاب إلي العمل ، و التاريخ ليس مجرد قصص مسلية ، و ليس مجرد نتيجة حائط نزيل أوراقها كل يوم !

الزمان هو مادتنا .. هو حياتك .. ، ميلادك زمان ، و موتك زمان ، نجاحك زمان ، و فشلك زمان

لو أن عقارب الساعة تدور هباءا لما بلي أحد بدورانها ولما إنزعج أحد إن توقفت ، وانما في دورانها دوران لحركة الكون .. إن في دورانها عزاء للمنتظر .. و نفاذ للقضاء .. و حياة لنفوس و موت لآخري

إن قيمة الساعات هي ما يمنحه الانسان لها ، فاليوم الذي لا يمحي من ذاكرتي قد لا يكون ذا شأن عند غيري ، و اليوم الذي سأموت فيه سيكون يوم ميلاد غيري من دون شك .. الحياة مستمرة و الزمان لا يضحك و لا يبكي ...

الإنسان مادته الزمان ، بمعني أوضح الانسان في كل لحظة مصنوع من الآن ، فلا يمكن أن يطلب إجازة ليذهب في زيارة خاطفة الي الماضي أو التطلع الي المستقبل .. فلا قص و لا تبديل و لا إعادة ، و لا يمكن أن نجري الي الامام أو نعود الي الخلف و لا حتي أن نوقفه دقيقة ، الزمان سيل جارف لا حيلة لنا فيه ، هو لا يسمع و لا يري و لا يفهم ، و لا ينضب و لا يغضب و لا يرضي ...

و بالتالي الحاضر و الماضي و المستقبل في الحقيقة شيء واحد هو الآن ،  و الماضي هو وقت اقتطعته من الحاضر لترجع فيه لأيام سابقة ، و المستقبل هو وقت إقتطعته من الحاضر لتفكر فيه في أيام قادمة .. فما الماضي و المستقبل الا ظلال مرسومة علي ورقة إفتراضية ، و العاقل هو من ينظر الي ماضيه كثيرا كي يتعلم و الي مستقبله قليلا كي لا يسأم ، و الي نهايته دوما


أما التاريخ ليس مجرد أرقاما و قصص مسلية ، و لو كان كذلك ما كانت قيمته لتساوي أكثر من ثمن ورقة علي نتيجة الحائط ، و انما التاريخ هو العبرة و الحكمة ، هو أن نتعلم ممن سبقونا لنعلّم من سيلحقون بنا ، هو أن نعي الحكمة من وجودنا ، هو أن لا نعيش في قلب الحياة و انما نعيش علي مسافة منها فننظر و نفكر و نفهم ، في أن نتذكر من ماتوا و هم في ذروة تمتعهم بالحياة ، و نتذكر من عاشوا و هم موتي علي ظهر الحياة


حسنا .. إن الله هو الدهر .. هل تعلمون معني ذلك ؟

معني ذلك إن الله - الوجود الوحيد - قد خلق الانسان من لا شيء .. خلق اللا شيء من اللا شيء عدم في عدم .. الانسان يولد من نطفة و بويضة ، يولد من اللاشيء ، ثم ينتهي و يتحول الي تراب ، الي لا شيء .. و كان لابد لهذا اللاشيء العدمي من وجود فأقتبس الله عز و جل منه وجودا .. مادة تملأ هذا الفراغ ...

فالزمان كل دقيقة فيه تشير الي وجود الله .. تشير الي النهاية المحتومة .. 

الجمعة، 31 أغسطس 2012

الغثيان .. قصة " مش " قصيرة


صباح الأربعاء التاسع من نوفمبر 1932 

البيت تدب فيه حركة غير معتادة .. الصباح لم يشرق علي قريتنا الصغيرة كما تعودنا علي أصوات الديكة الصائحة و الجرار يحرث الأرض و العصافير بين الأشجار حالمة 
ثمة شيء غريب .. أصوات صيحات مكتومة ، ابتهالات و إلحاح في الدعاء ، في كل بيت هناك كارثة تداهمه و تحوم حوله لا أعرف تحديدا و أنا في هذه السن الصغيرة معني لذلك الأنين المصاحب للغثيان و القيء الشديدين الذي تصيح به القرية هذا الصباح

*************

في مساء تلك الليلة عرفت أن الموت ذا الوجه العكر قد حصد أرواح الكثير من أهالي بلدتي. لم أفهم وقتها ماذا يعني لي الموت غير أنني لن ألعب بعد اليوم مع " منصور " صديقي و لن أذهب الي دكان عم " حسانين " ليعطني بعض الحلوي عطفا عليّ
يالهذا الشيء السمج الذي أسمه الموت يمنعني اللعب و الحلوي .. كم أكرهه هذا الشرير

-------------------------------------------------------

الجمعة السابع عشر من مارس 1944 

الأيام تمر بلا هوادة .. لا وقت لشيء الا للعمل ، لا وقت حتي أن نفكر في الوقت ، ان نفكر متي يعود أخي ، فإما العمل و إما الجوع. حسبي الله في الحرب و ويلاتها أخذوا أخي في تلك الحرب التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل . أخي هو عائل أسرتنا بعد وفاة أبي
ألم يفكروا أولئك الجبابرة في مصير أسرتنا بعد أن يرحل أخي الي الحرب ؟ ، ثم إن ما علاقة أسرتنا بتلك الحرب المجنونة بين الحمقة هتلر و تشرشل و موسوليني و إنكارت ، لا يوجد سبب واحد يقنعني بحرب ضروس تودي بحياة عشرات الملايين !! .. لابد أنه الجنون

***************

الأيام أحيانا لا تمهلنا بعض الوقت حتي كي نتمني ، تشح علينا حتي بأن نحلم بالراحة ...
أخي قُتل في الحرب .. هكذا حل علينا الخبر صاعقا ، أنقطعت رسائله منذ فترة و لكن أسرتنا مريضة بداء الأمل
ها هو الموت يطل عليّ بوجهه القبيح من جديد ، لماذا لا يريد أن يتركني و شأني ؟ لماذا تنتزع مني كل ما يربطني بتلك الحياة أيها الغبي الذي لا يفرق بين من يستحق الحياة و بين من لا يستحقها !

------------------------------------------------------------

الخميس الثامن عشر من إبريل 1974 

كم نحن ماريونت في أصابع الزمن ، يذهب و يعود و يحركنا كيف يشاء ..
إننا نظن كثيرا إننا في حرية تامة نستطيع أن نفعل كل ما في وسعنا .. إننا في الحقيقة خائبون الظن إذن
أعيش الآن في القاهرة بين زوجتي و أولادي .. الحياة ليست كريمة معنا و لكنها لا تضنو علينا كذلك ، الشكر لله علي كل حال

******************

جرس الباب يدق بشدة ، قلبي يدق أشد ، لازلت ممن يأملون في رحمة الزمان ..
كان ما توقعته .. الجماعات الجهادية المتشددة في قمة نشاطها الآن إنها تمارس الارهاب في أبشع صوره و للأسف ذلك باسم دين الله .. كم أضيق ذرعا بهذا السخف ، كم أضيق ذرعا بهؤلاء من محدودي العقول
أكبر أبنائي مصيبتي تلك المرة .. فاجعة جديدة تحل بي بعد أن ظننت أن الموت نسي الطريق الي ، بعد أن ظننت أني تركته في القرية ضمن ما تركت من بيت و أرض عاد ليوجعني من جديد ..

----------------------------------------------------------

السبت الثاني و العشرون من يناير 1983 

آه .. لا أريد الدواء ، كفي عند هذا الحد ، لماذا أتناوله ؟ سيطيل عمري كم يوما إضافيا ؟ كم شهرا حتي ؟
لا كفي تشبثا بالحياة .. سأواجهك هذه المرة لن أهرب منك لن أدفن رأسي في الحياة ، لن أختبئ فيها منك إنك كنت دائما لي بالمرصد تكدر صفو الحياة ، ترهقني ألما
مواجهتك هي نهاية كل ألم ..
لا فرار من الموت بعد الآن ، بل إني طامح في أن أنهي حياتي .. سأموت برغبتي لا برغبتك هذه المرة
أشعر بغثيان شديد من أثر كل ما تجرعته من تلك السموم
لا بأس هو آخر غثيان في حياتي علي أية حال

(( أنتهي ... ))

الجمعة، 29 يونيو 2012

الرواية التي لا ينساها أحد .. قصة "مش" قصيرة

اليوم أتم الواحد و السبعين من عمري .. أحتفل به وحدي بعد أن فارقتني زوجتي منذ عامين أو يزيد و بعد أن هاجر أولادي و تركوننا منذ أعوام .. و لكن هذا العام زاد من وحدتي ألم المرض الذي ينهش في جسدي و يدك عظمي دكا !
فكرت كيف أقضي ذاك اليوم و أنا علي علتي تلك ؟ فقررت أن أشتري رواية جديدة و أنا من عشاق الروايات فهي تجمع بين الشيئين اللذين يبدوان قطبين متنافرين .. فهي تجمع بين المتعة و الحكمة ! .. و رغم ضعف نظري و آلام جسدي الا أنني عكفت ساعات علي قرأتها .. و بعد أن انتهيت منها أرحت ظهري الي الوراء .. و وضعت رأسي بين يدي .. و أخذت أفكر بعد هذا العمر الطويل ما أفضل رواية قرأتها ؟؟ ما أكبر عبرة أخذتها ؟؟!

و وجدت أن الذي يسيطر عليّ تماما تلك الرواية التي كنت أنا بطلها ! .. نعم فكل منّا له رواية هو بطلها
فالمؤلفون العظام مهما بلغوا من العبقرية في النسج و الاحكام فلابد و أن تتفلت من بين أصابعهم بعض التفاصيل .. فبراعة المؤلف لا تفوق براعة الخالق ذاته ، كما أن واقعية المؤلف لا تتفوق علي الواقع نفسه ! و من هنا كانت رواية الدنيا هي أعظم الروايات .. رواية كل منّا أنا و أنتم .. هو و هي .. هم و هؤلاء .. الناس جميعا ! ..
عادة تشدنا الروايات التي تمس مشاعرنا و نشعر أنها تشبهنا .. تنطق علي ألسنتنا ما لا نجرؤ قوله أو قل ما نعجز عن قوله .. فكيف يكون الحال بالرواية التي أنت بطلها !

و رغم الألم الذي ينفض جسدي الا أن ذاكرتي تبدو بخير .. أتذكر جيدا كل أحداث حياتي و كأنها شريط يمر بذهني دون توقف .. أتذكر يوم أن كافأني أبي لأول مرة .. و يوم أن ضربني لأول مرة .. أتذكر أول راتب حصلت عليه .. و أتذكر يوم أن دق القلب لأول مرة و كانت الأخيرة علي أية حال

و لكن من بين تلك الذكريات المتناقضة بدأت أري حلقات متشابكة تقود لبعضها البعض .. فالطفل الذي أنهره اليوم ليكف عن الصراخ كنت أنا بالأمس ! .. و الأب الذي تركته وحيدا متطلعا لمستقبلي في السفر و أعماني طموحي عن أن أبقي بجانبه فأرعاه - ذلك الأب هو أنا الآن بعد أن هجرني أولادي .. و ذاك الرجل - مديري - الذي وقفت معجبا بشبابي يوما في وجهه بجرأة أقول له أنه ينفرد بآرأه و يقتل فينا نحن معشر الشباب الطموح .. فبعد سنوات طويلة وجدتني مكان ذاك الرجل المستبد كما كان هو و جدت شابا يعيد علي مسامعي ما قلته يوما ! .. كم هذه الدنيا فقيرة ! إنها تطبع من أحداثها ألف نسخة و نسخة تعيدها علي مسامعنا ألف مرة ! .. و كأنها عقرت عن الأحداث فلا تلد جديدا ..
و بالتالي فإنه لابد أنه كما يوجد من تسبه أنت لجهله هنا يوجد من يسبك لجهلك هناك ، وكما أن الميت الذي تبكي علي رأسه اليوم ثم تنساه بعد أن تشيعه لقبره سيأتي يوما يبكون الناس علي رأسك مشيعين بالعبرات الي القبور ثم ينسوك و يعودون للهو و تدور الحياة ولا نتعلم أكبر عبرة .. وهي الفناء و أنه لا خلود

وأنت .. روايتك كاملة تماما بماضيك و حاضرك و مستقبلك .. بأنت و بالآخرين .. بما تفعل و بما لا تفعل .. أنت المحور الذي تدور به الأحداث علي أي حال . روايتك تبدأ من طفولتك البريئة مرورا بشخصيتك و آراءك التي تتبدل بين ثانية و أخري .. تشمل مبادئك التي أكتسبتها و أخلاقك التي تعلمتها .. تشمل أناس عرفتهم و أخرين قد أصبحوا ماض .. تشمل مئات البشر منهم من يشاركك البطولة و منهم من له دور ثانوي و منهم من يلعب دور كومبارس الذي هو لابد منه لاستمرار الأحداث ، و لكن لا تنسي أن الكومبارس في حياتك قد يكون بطل رواية آخري أنت أيضا كومبارس فيها ! .. و لا عجب فتلك دورة الدنيا و تدابير القدر

روايتك هي حياتك عندما تخطيء ثم تتوب .. عندما تندم ثم تعاود الخطأ .. عندما تفشل ثم تنجح .. عندما ترفعك الدنيا لأعلي نقطة فلا تغتر .. ثم تسقط بك لأسفل السافلين فلا تقع .. حياتك عندما تولد و لا تعيش ، و عندما تري الموت وجها لوجه و يكتب لك النجاة .. عندما تتألم فتصبر ثم تسعد فتشكر ، عندما تعرف أنك لا يمكن أن تعرف و تفكر فترفض أن تفكر
كل هذا هو أنت .. هي حياتك صعودا و هبوطا ، هي المنحني الذي لا يتوقف عن السير .. و مع كل صعود أو هبوط عظة و عبرة ، و لو ظل المنحني دائما الي أعلي ستمل العلو ! .. و لو ظل المنحني هابطا ستمل الهبوط فلابد من أن يواصل تغيراته بل و طفراته صعودا و هبوطا تلك هي الحياة

أما أنا .. فصول حياتي تمر بسرعة الآن أما عيني .. فصول الرواية قربت أن تنتهي .. إنني أشعر الآن بأن الفصل الأخير يكتب .. الألم يستشري في جسدي .. ألف خسارة لقد وعيت الي الحقيقة متأخرا جدا ! و أنا في هذه السن العجوز !
ليتني ما أنفقت حياتي في أن أكمل الحلقة التي تنغلق في نهايتها علي كل منّا
ليتني قرأت روايتي قبل ذلك .. إنني الآن أشعر أن روحي تتزح من صدري .. أشعر أن شيئا ثقيلا يتركني .. لا أستطيع أن أدرك شيئا حولي الآن يبدو أن الخاتمة قد كتبت و مشهد النهاية أزيح عنه الستار

أنتهت روايتي .. و أدركت الحكمة و المتعة اللذين تعودت أدراكهما من نهاية أية رواية ! .. و لكن ما جدواهما الآن و أنا كومة تراب .. لو يـأذن الله أن يصل صوت نفسي لمرة أخيرة فسأقول فيها .. الحكمة التي تكتسبها من حياتك هي أنت .. هي وجودك .. إياك ثم إياك أن تضيع عمرك و وجودك هباء .. إياك أن يمر شريط عمرك و أنت لم تدرك الحكمة من وجودك

الجمعة، 15 يونيو 2012

الإختيار

الإختيار .. عندما تكون إرادتك إجبارا لك .. و وجودك مسئولية ثقيلة .. و حريتك عبء يضاف إلي أعباء الحياة
الإنسان في كل لحظة يتعين عليه أن يختار .. مهما كان عمره أو ثقافته أو دوره في الحياة .. منذ اللحظات الأولي لنا نقع في حيرة الأختيار .. تختار خلقك و شخصيتك .. تختار صديقك و جارك .. تختار مسار لحياتك و حتي مجرد إمتناعك عن أن تختار هو في حد ذاته إختيار ! .. لقد أخترت أن يختار لك الأخرون  فلا مبرر إذن من الشكوي أنك محروم من حريتك في الأختيار .. لأنك فقدت إرادتك بمليء إرادتك ..

و كثيرا ما نقع في ذلك .. كم من المشاعر التي تستولي علينا تفقدنا حريتنا .. و لكننا نختارها بمنتهي الحرية
الحب عاطفة غير ديموقراطية بالمرة و مع هذا فنحن ساعون إليه بشدة ! .. و الشهرة تفقدك الحرية و الخصوصية و مع هذا تحلم بها .. بل إن المال أسواء قيد لأنه يقيد حريتك بوجوده .. و يحد من حريتك في حدود ما تمتلك من مال و رغم ذلك يكدح الإنسان الي المال كدحا ..
و النجاح قيد و المتعة قيد و حب النفس قيد و العقل قيد و انعدامه قيد أيضا !

و لا تقل لي أن الحياة تفرض علينا .. الحياة لا تفرض شيئا بل إننا من نختار كل شيء .. إننا من نضع القوانين و نرسم الحدود و نكتب الدساتير .. و بمقدورك أن ترفض أي شيء إن كنت تمتلك الجرأة و الإيمان بما تصنع .. أنت تفرض علي نفسك العذاب ثم تشكو من ألمه ولكن في الواقع من الممكن أن تستغني عن أي شيء فقط لو توافرت لك الإرادة لأنْ تفعل ذلك

المسألة أنك في كل لحظة أمامك إختيار .. و في كل لحظة إختيار أنت تفوز بشيء أنت مؤمن به و لكنك تخسر باقي الإختيارات التي كانت متاحة أمامك .. هذه هي الحقيقة و إيمانك بما تختار هو الذي يهون عليك بلاء فقدان الإختيارات الأخري .. فهي غاية العدالة إذن أنت تختار مكسبك و طريقك و تدفع الثمن خسارة باقي الإختيارات ! .. أي لحظة الإختيار هي اللحظة التي تفقد فيها حريتك ثمنا لما وقع عليه إختيارك
و تذكر دائما أنك لن تنال كل شيء .. فلا يمكن أن تكون الرابح الوحيد في عالم الكل فيه خاسرون !

و عليك دائما أن تتذكرأيضا أنك من أخترت .. فأنت مسئول إذن .. لا تلومن إلا نفسك .. فالساعي إلي التفوق لا يجب أن يشكو من مرارة إجتهاده لأنه من فرض علي نفسه ذلك الاجتهاد .. و الساعي إلي الحكمة لا يجب أن يشكو من مرارة الحمق المحيط به لأنه من فرض علي نفسه تلك الحكمة .. لتعلم إذن أنك لا تقدم تنازلا ولا تضحية .. أنما أنت تدفع الثمن .. إنها الضريبة لما أخترت .. و غيرك ربما يحلم بما أنت فيه و لكنه يدفعه ثمن لإختيار آخر ..

إن حريتك التي أخترت بها هي المسئولية الملقاه علي عاتقك في كل لحظة .. إختيارك يعبر عنك فلا تبكي علي ما صنعت لنفسك و كن علي قدر إختيارك .. 

الجمعة، 18 مايو 2012

الغرباء .. قصة "مش" قصيرة

إحدي ليالي أغسطس القاهرة الحارة .. بعد منتصف الليل .. يقضي الأصدقاء الستة ليلتهم الأخيرة معا بناءا علي طلبهم وذلك قبل تنفيذ حكم الاعدام فيهم ... 
الأصدقاء جالسون في شكل مستدير كما أعتادوا أن يجلسوا .. الصمت يخيم عليهم و الكلام فقط بالأعين هكذا أعتادوا أن يتكلموا .. و لو سألتني عما يجمع بين هؤلاء الستة ليكونوا أصدقاء لأجبتك بالحيرة و الدهشة .. فمنهم الغني و منهم المعدم .. و منهم المتعلم و منهم الجاهل .. ومنهم الذكي و منهم التافه .. و رغم تلك المتناقضات الكفيلة الواحدة منها للتفريق بينهم الا أنه لابد أن هناك شيء أقوي قد جمع بينهم !

الأصدقاء الستة لا تستولي عليهم أي لحظة حزن و لا خوف من الحكم الصادر بشأنهم .. هم جالسون في هدوء و عدم اكتراث بأي شيء حولهم .. فقط تدور في أذهانهم تلك الذكريات المتناقضة التي جمعت بينهم 
يتذكرون الفجر الذي كانوا يصلونه في جماعة .. و يتذكرون العربدة و الآثام التي اجتمعوا حولها .. يتذكرون ليالي جمعتهم علي روايات نجيب محفوظ و احسان عبد القدوس .. و يتذكرون ليالي جمعتهم في سب هذا و ذاك

الأصدقاء الستة لم يكونوا يقيمون لأي شيء وزنا .. لا يحبون المال و لا الشهوة .. لا يشعرون بلذة في العمل و لا الراحة .. في النجاح و لا الفشل ! .. يبدو أن هناك شعور طغي علي كل هذا ! .. إنه شعور بالغربة ! 
و أسواء ألوان الغربة لا أن تكون غريبا عن وطنك و لا أن تكون غريبا عن أهلك .. و لكن أن تكون غريبا عن نفسك .. غريبا عن رائحتك و غريبا عن ملمس جلدك .. و غريبا حتي عن حياتك و واقعك .. كأنك تحيا حياة لشخص آخر

الأصدقاء الغرباء جمعتهم الغربة في أوطناهم .. والاحساس باللا انتماء .. ربما كان هذا الدافع الحقيقي لمكوثهم خلف القضبان هكذا ! .. فقد قرر الأصدقاء في لحظة بدون سابق تفكير أو تروي أن يؤدوا دور المجتمع في العدالة
فكانوا يهاجمون أصحاب المصانع المستبدين ينبهوا مساكنهم ليوزعوا ما نهبوا علي العمال المساكين ! .. كانوا يسرقون الموظف المرتشي ! .. كانوا يساعدون الطامحون في الخير ليحقق كل ذي طموح ما طمح اليه .. و يقفون في وجه الطامعون ليرد كل ذي طمع ما طمع فيه !

استمروا علي نهجهم لسنوات ! و الغموض يحيط بتلك الحوادث .. و الصحف تتكلم عن تلك العصابة ! .. لم يكونوا يبالون بما يقال عنهم خيرا أو شرا .. لا يلقون أسماعهم لمن وصفهم بالمجرمين و لا لمن وصفهم بالمرضي .. و عندما ألقي القبض عليهم لم يحالوا الهرب ولا حتي تبرير مواقفهم .. و قابلوا كل ما واجهوه من تهم بالصمت .. حتي رفضوا أن يكون لهم محام 
و لكن المحكمة أنتدبت لهم محام في سن الثلاثين .. يفوقهم سنا ببضع سنوات ..

تلك الأفكار ظلت تدور في رأس هؤلاء طوال ساعات الليل في ليلتهم الأخيرة داخل محبسهم حتي بزخ النهار و هم يتذكرون حكم المحكمة و القاضي يردد " حكمت المحكمة علي المتهمين الستة بالاعدام لما أثاروه من رعب و فوضي في البلاد و لخطورتهم الشديدة علي المجتمع " و قد استقبلوا الحكم بضحكات مكتومة .... 
و ظلت آخر كلمات تتردد في آذانهم هي نهاية المرافعة العصماء للمحامي و هو يقول : " لن أدافع عن جريمة .. و لا يمكن أن أطالب ببراءتهم .. و لكن يا سيادة الرئيس إذا كنت تريد تطبيق العدل فأين العدالة ؟ .. إن هؤلاء الغرباء الصامتين تاهوا عن أنفسهم في زحمة مجتمع مادي مشوش .. إن المجتمع الذي يهتم بالمظاهر و يهمل الانسان في مضمونه هو مجتمع مقلوب هش .. سينهار يوما علي من بداخله .. إن مجتمع يحكمه المادة و القوة و يُسمع فيه من يعلو صوته و لو بالباطل هو مجتمع ظالم و ضعيف .. إن المجتمع الذي تُسفًّه فيه الفكرة و يُدفن فيه العقل هو مجتمع مخيف .. هو مجتمع مجنون ... !!"

الاثنين، 7 مايو 2012

بحكم العادة ..

بحكم العادة استيقظ من النوم , و بحكم العادة أتناول الإفطار حتي و لو لم أكن جوعانا - أو العكس ربما - , و بحكم العادة أتأخر علي صديقي الذي ينتظرني كل يوم لنذهب للجامعة سويا , و بحكم العادة أبتسم في وجه أصدقائي و إن لم أكن سعيدا , و بحكم العادة يسعد القلب اذا رأيت من أحب , و بحكم العادة أخلد الي النوم اذا عدت الي منزلي و لو لم أكن متعبا , و بحكم العادة أسخط من أوضاع الوطن و أوجاعه
انها ليست قصتي وحدي انها قصتكم جميعا أيها الأعزاء ... 

فبحكم العادة تنام و تستيقظ .. و بحكم العادة تحب و تكره .. و بحكم العادة تسعد و تحزن .. و بحكم العادة تحيا و بحكم العادة تموت ! .. بحكم العادة تقول نفس الكلام .. و بحكم العادة تسمع نفس الكلام .. و بحكم العادة تقرأ لي هذه السطور رغم الملل الذي أصابك .. و بحكم العادة أكتب هذه السطور رغم الملل الذي أصابني ! .. الملل أصابني و أصابك و لا شيء يدفعنا للاستمرار الا العادة  !

كلنا لدينا الكثير من العيوب التي لا ترضينا .. كلنا لدينا واقع نود لو أن نغيره أو حتي يغيرنا ! .. قل لي لماذا لا نغير أنفسنا ؟ لماذا لا نغير واقعنا ؟ .. سألني صديقي هذين السؤلين فأجابته إجابة الواثق " بحكم العادة " : لأننا نعيش " جوه " أنفسنا .. أنت هو أنت و إن لم ترضي عن أنت !
إن الحياة عندما تسيطر علينا تصبح شديدة الملل .. و أن تعيش سجينا داخل نفسك و داخل حياتك التقليدية لهو دافع لأن تشعر بالقرف .. لهو دافع للانتحار !

إن الحياة بدافع التعود وحده يجعلك تعيش و تعيش و تعيش .. و لكن من دون أن تشعر إنك علي قيد الحياة .. فكل شيء بالتعود يفقد قيمته .. لو أنك تسكن في بيوت من الذهب لما راق إليك منظره .. و لو أنك تتنفس رائحة العطر لما طابت إليك رائحته .. و لو أن كل ما تشتهيه تجده أمامك لزهدت فيه بكل تأكيد !
إن حياة نحياها بدافع من العادة فقط هي حياة منقوصة بكل تأكيد .. هي مملة .. هي لا تستطيع أن تمنحك الرضا و لا تستطيع أنت أن تنتزع منها السعادة

أنت لا تستطيع أن تغير شيء ما دامت تعيش داخل هذا الشيء .. فإذا أردت أن تغير ما تكره في نفسك فعليك أولا أن تخرج خارج نفسك .. و لن تخرج خارج نفسك إلا بأن تتمرد علي العادة ... و لن تتمرد علي العادة إلا عندما تشعر إنك حر
و حريتك تلك لابد و أن تكون مسئولة .. فالحرية غير المتبوعة بمسئولية هي الفوضي ... فالله خلقك حر في عالم تحكمه قوانينه

التمرد .. لا يمكن أن تتمرد علي نفسك قبل أن تفهم التمرد أصلا
فالتمرد معناه اللغوي العصيان و الخروج عن الأمر .. و هي ليست ثورة .. فالتمرد ثورة من أجل النفس و لكن الثورة هي تمرد من  أجل الآخرين !

و لن تخلع عن نفسك ما تعودت عليه و أسرت فيه الا عندما تعرف حدود ذلك الأسر .. ما الذي يربطني بتلك العادة ؟ و من الذي فرض عليّ هذه العادة ؟ .. و لو تعلمون كم يُلح علي رأسي هذا السؤال ! من الذي فرض المفروض ؟ من الذي وضع القانون الذي نسير بين قيوده ؟ .. المسألة لا تبدو أبدا معقولة لو كنا نسير في طرق رسمها لنا غيرنا .. من الغباء أن نردف في أغلال سمحنا لغيرنا أن يفرضها علينا و نحن بإمكاننا أن ننطلق وثبا !

الإنسان يقضي نصف عمره يتردد في أن يصلح عيوبه و يقضي نصفه الآخر نادما علي ذلك ! .. و يضيع العمر و نحن علي حالنا .. أو قل علي عادتنا لا جديد في حياتنا إلا الشكوي .. من الزمان .. من الأصدقاء .. من الأهل .. من الحياة .. نشكو من كل العقابات و نحن أكبر عقبة أمام أنفسنا !
إننا بكل وضوح نحتاج إلي صدمة ! .. اليابانيون لم يدركوا خطر الفناء الا بعد الحرب العالمية الثانية .. عندما وجدوا قنبلة نووية تسقط علي رؤسهم بأسم الحريات الأربعة أدركوا أنهم معرضون للإبادة كما تُباد خلايا النمل ! .. في هذه اللحظة فقط استيقظوا و علموا أن عليهم الانتقال من مرحلة مصمصة الشفاه علي حالهم الي مرحلة الدق باليد و العمل 

و أنت أيضا في حاجة الي صدمة .. و الإنسان الذي يظل حبيسا في قوقعة عادته ليس له فعل الا الكلام هو نصف حي .. و في الحقيقة لا يوجد أنصاف أحياء .. فإما أن تختار أن تعيش الحياة بالحرية المسئولة .. و إما أن تختار أن تموت و أنت علي قيد الحياة ! .. لا تيئس و لا تخشي شيئا .. إنها دعوة الي التمرد و أعتبروني محرضا إذا .. لا تحول كل شيء في حياتك إلي عادة .. الي ذلك الشيء الأتوماتيكي تفعله بلا فكر و بلا روح و بلا نية و بلا تدبر .. لا تصنع من نفسك آلة أو ماكينة .. فأنت أعظم من أن تكون آلة .. أنت إنسان 

كلمتي الأخيرة لنفسي قبل أن تكون لك .. إن كل ما نحتاج هو قرار جريء يتخذه قلبا مفعم بالإرادة و مفتون بالحرية .. نحتاج قلبا صبره لا ينفذ و أمله لا يزحزح .. نحتاج نفسا مطمئنة عارفة بربها .. تحلق بعيدة عن إطار جسدها الضيق في حرية و تصبو إلي بارئها في أمل و تدبر .. فقط من هنا طريق التمرد علي العادة

الأحد، 15 أبريل 2012

كن نفسك .. قصة "مش" قصيرة

عجبا اننا نفعل الأفاعيل في كثير من الأحايين لكي نرضي غيرنا و النتيجة أننا نفشل في أن نكون كما نريد و كذلك نفشل في أن نكون كما يريد غيرنا ! ان هذه المقولة تنطبق علي صاحبنا الشاب الذي تدور به و حوله الأحداث .. فهو كمثل أي شاب في عمره كان يحلم بمستقبل مشرق و حياة مليئة بالنجاح و هو كان عاشقا للموسيقي منذ صغره .. يشده صوت العود و الكمان و الناي و هو كان يهوي تعلم الموسيقي و كان متفوقا في دراسته بما يمتلكه من سرعة بديهة و ذكاء شديد

كان يحلم بأن يدرس الموسيقي و لكنه أمتثل كارها أمام ضغط أهله و لكن ظل حلمه يراوده أو قل ظل هو الذي يراود حلمه منتظراً للحظة الفكاك من الأسر التي يحقق فيها حلمه .. و لو قلت لك كم من مرة أشتري عود أو ناي .. و لو قلت لك كم من مرة لعبت أحلامه برأسه لكي يترك دراسته و يدرس الموسيقي و لكن في كل مرة كان يعود صاغرا اما طاعة لأمر أبيه الذي كان يرده مرة باللين و ألف مرة بالشدة و اما كان يرد نفسه بنفسه لا أعرف ان كان خوفا من أهله أو خوفا عليهم من أن يصدمهم

مرت السنون و صاحبنا علي حاله .. فهو لم يستطع أن يحب ما يتعلم و لم يستطع أن يتعلم ما يحب ! ..طرق بابه الفشل لأول مرة ليس لقلة ذكاء منه و لكن لأنه لا يحب ما يصنع و لا يفهم – أو قل لا يريد أن يفهم – ما يدرس .. حالته كانت أشبه بحالتك و أنت بين النوم و اليقظة فلا أنت تغط في سبات عميق لا تدري ما يدور حولك و لا أنت تملئك اليقظة و النشاط متقد الرأس بالحيوية و مشدود الهمة بالعزيمة .. ان هذه الحالة تشعرك بالقرف و الاضطراب .. فلا انت تري كل شيء بوضوح و لا أنت مغمض العينين لا تري شيئا .. فلا أنت تسمع و لا أنت لا تسمع .. ان هذه الحالة من التواهان هي التي كانت تسيطر علي صاحبنا طوال هذه السنين .. و كان أشد ما يؤلمه و يقض مضاجعه سخرية من حوله منه خصوصا عندما تأتي من الأقربين .. فيرددون له عبارات " بلا موسيقي بلا كلام فارغ " و " عايز تبقي ألاتي " .. و " ذكرلك كلمتين ينفعوك " و الي آخر هذه الكلمات التي كانت تقع في نفسه وقع السهام المسمومة

أهٍ منك أيها الزمان فانك تفني كل شيء .. مر الزمان فقتل في صاحبنا شبابه و حيويته و راحة باله .. و حصد روحي أبيه ثم أمه كل شيء أفناه الزمان و قدر عليه الا حلمه لم تستطع الأيام أن تقتل فيه الحلم .. فانه تخرج في الجامعة منذ أعوام و التحق بوظيفة يحمل اليها نفس البغض الذي كان يحمله لدراسته .. و تزوج بضغط من أبيه أيضا .. كل هذا لم ينسه الحب الأول ... الويل لنا من الحب الأول لو كان صادقا فانه بجري في أرواحنا و أجسادنا مجري السم الذي ينتشر في العروق .. و هو لم ينسي حبه الأول -و الأخير- للموسيقي

و اليوم هو أربعين وفاة والدته الذي تلي وفاة والده بأربعة أعوام .. و رغم الحزن الشديد علي وفاة والدته الا انها كانت مناسبة كي يدب فيه احساس الحرية من جديد .. لما لا يحاول أن يعود الي هوايته  و يدرسها ؟ .. انه عاد الي غرفته المغلقة في بيت أبيه و أمه التي كانت تحمل آلاته و ذكرياته .. الغرفة التي شغلته الحياة عنها .. وجد أن ألاته قد غطاها التراب و كذلك حسه الموسيقي قد غطاه التراب .. فهو الان بعد أن تخطي الأربعين و غطت الهموم و الحياة أصابعه التي يعزف بها لم يعد تعلمه للموسيقي بالأمر اليسير ...

و قد حاول مرارا و تكرارا أن يتعلم و يدرس و لكن ضغط بيته المسئول منه و عمله لم يًتيحا له فرصة .. أصبح يشعر أن الموسيقي في قلبه كما تعوّد عليها نبتة صغيرة تتعطش للماء .. عندما كان لديه الماء لم يكن لديه الفرصة أن يسقها .. و عندما أتيحت له الفرصة كان الماء قد جف !
أحيانا اذا لم نفعل الشيء في وقته يموت .. و الوقت من شدة قسوته لا يمكن أن يعود ليمنحنا ما لا نحارب لننتزعه .. كن كما شئت فانك لن تعيش مرتين !

الجمعة، 24 فبراير 2012

خليك في حالك ...

عندما تسير في الطرقات ترمق بعينيك من علي يمينك و من علي يسارك .. تنظر علي الطريق مرة و علي من حولك ألف مرة .. تنظر الي الناس كيف ينظرون اليك ! .. تسير و كأنك أعجوبة  ..تتخيل أن كل من في طريقك و في موقع عملك و في بيتك يدقق النظر في أدق تفاصيلك .. فتود لو أن تصرخ فيهم بعلو الصوت " خليك في حالك ! " .. اطمئن لست وحدك الذي تشعر بذلك كلنا يا عزيزي نتخيل العيون تتلصص لتسرق منا خلسةً نظرة حسد أو اعجاب أو حتي ازدراء ..

 اعمالنا نقيسها بمقياسي ما يرضينا و ما يرضي الناس .. واهمون نحن اذن ان تخيلنا أن بمقدورنا ارضاء الناس .. سننقاش تلك القضية لاحقا و لكن ...  من ادخل الي عقل حضرتك أن البشر قد خلا من همومه ليضعك همه الأول ؟؟ من الذي لعب بخيالك و اقنعك انك اصبحت محل الدراسة البشرية !! .. فالذي يحدق النظر فيك قد تكون هيئتك أو زيّك يذكره بهمٍ فامتعض .. او بفرحٍ فابتسم

 غيرك ايها الانسان العاقل همه الأول هو نفسه لأنه يظن انك ايضا تنظر اليه .. غيرك غارقًا الي أذنيه في الهموم .. غيرك انهكته الحياة و أخذت منه و أعطته مثلك .. لا فضل له عليك و لا أنت أفضل منه في شيء ! و لو كان منا أحدًا خاليًا من العيوب لصار نبيًا .. و لو كان منا أحدًا يمتلك كل شيءٍ لانتحر !! .. صدقني كلنا تملأنا النواقص .. و لو أن أحدا ينظر اليك فانه لينظر اليك ليس غبطةً ولا شفقةً بقدر ما هو يطمئن الي نفسه انه ليس بأقل ممن حوله ! هيئتك و خُلقك و عملك هو خالص لك .. عملاً بينك و بين الله .. العيون التي تظن انها تسير خلفك في كل مكان صدقني لا تري الا أنفسها .. و ان كادت ان تراك فلا تراك الا كلمح البصر فلا تحتاج منك كل هذا المجهود في ارضاءها

ثم ان ارضاء الناس أمر ليس له من الواقع نصيب .. خيال غير علمي  لأن الناس اختلفت أذواقهم و أعينهم و أفكارهم فما أتفقوا علي شيء و لا حتي علي الله عز و جل .. و من يضع الناس نصب عينيه اعيته الناس و لن يرضيهم ايضا !!
صدقني أنت في وسط الناس لك ملكوتك وحدك .. من حولك لديهم من العيوب ما يمنعهم من الالتفات الي عيوبك .. و لديهم من الخطايا ما يمنعهم من ارتداء ثوب الوعظ و الارشاد .. من منا بلا خطايا ؟؟ من منا هذا الانسان الكامل الذي يحاكم من حوله ؟؟!!