في تلك المدينة النائية حيث يجري دين الله بين الناس ، يتوارثونه جيل بعد جيل منهم من يرثه عن فهم ، و منهم من يرثه مع ما يرث من والديه من أثاث و مال .. و كان هذا الذي لم يكمل عامه العشرين بعد مسرفا في خطاياه و ذنوبه ، لم يؤد فريضة قط .. إنه بعيد عن الله أبعد ما يكون ، فكان إذا ما ذكر اسم الله أمامه لا يلقي له بالا ، فهو كان يكاد أن ينكره
و لكن لله أمور لا يعلمها إلا هو ، فقد بدأ يدب في قلب الفتي نورا ، أن يبحث أكثر عن الله ! ، ليس ذلك الأسم الذي أعتاد قومه أن يعبدوه ، و إنما يبحث عن الخالق المستحق للعبادة عن فهم و إيمان و عقيدة
و لكن القدر لم يمهله فقد قبض عليه يوما مخمورا ، فقُدم للمحاكمة أمام رجال الدين ، فأقاموا له محاكمة قاسية جهر خلالها بأفكاره .. فلم يناقشوه و لم يمنحوه فرصة يدافع عن نفسه أو يتوب ، و إنما قضي عليه بأنه آثم ضال لا يصح له توبة ، و حكم عليه بالخروج من المدينة معزولا منفيا
خرج الفتي من المدينة لا يعلم إلي أين يذهب ، هل قُضي عليه الموت ؟ ، هل لفظه الدين بعد أن كاد أن يصل ؟ هل رفضه الله بعد أن كاد يدركه بقلبه قبل عقله !!
سار هائما علي وجهه حتي وجد منزلا محاط بالصحراء من كل جانب ، فتقدم ببطيء و طرق الباب ، فإذا برجل قد أفناه الزمان يفتح الباب و لم ينتظر أن يتكلم الفتي ، فأشار له بالدخول.
سار هائما علي وجهه حتي وجد منزلا محاط بالصحراء من كل جانب ، فتقدم ببطيء و طرق الباب ، فإذا برجل قد أفناه الزمان يفتح الباب و لم ينتظر أن يتكلم الفتي ، فأشار له بالدخول.
لم يجد الفتي مناص من أن يدخل مهما يكن من أمر الرجل فهو البديل الوحيد للموت . و ما أن دخل الفتي حتي أخذته الدهشة فقد وجد ذلك العجوز عاكفا علي الخمر ، بيته لا يوحي بأي مظهر من مظاهر الصلاح ، فقطع الرجل تأملات الفتي قائلا:
- لابد أنك طُردت مثلما طُردت أنا من عشرين عاما !
- نعم لقد طردني أهل تلك المدينة دون أن يستمعوا إلي دفاعي حتي ..
- أعرفهم جيدا لا تبتئس و لا تحزن .. ثم صمت برهة و عاد يقول بصوت متهدج: و ماذا ستفعل الآن؟
- سأبقي هنا ..
- بل ، لابد أن تعود إليهم و تتوب إلي الله
تملكت الدهشة قسمات وجه الفتي و قال:
- أنت الذي تنصحني بذلك ؟ ، لقد رفض أهل الدين أن يمنحوني تلك الفرصة
- لا وصايا لأحد علي دين الله ، فدين الله فقط لله ، توب إليه و هو سيقبل توبتك إن كانت صادقة
- و لكن .. كيف تنصحني أنت أيها الشيخ الفاني و أنت ..
- و أنا عاصي أليس كذلك ؟
- حقا !!
اعتدل الرجل في جلسته و أراح ظهره إلي الوراء و قال:
- لا تتعجب فكي يدخل مثلك الجنة لابد لمثلي أن يدخل الجحيم !! .. و لو أن أهل الأرض جميعهم أمنوا وعملوا الصالحات و دخلوا الجنة فما جدوي الدنيا ؟
- ما أعجبك ! و هل تنتظر مني أن أسمع نصيحة من مثلك ؟ ، فأنت قد عصيت الله فطُردت مثلي فلما لم تتوب ، و ما جدوي توبتي الآن ؟
انزعج العجوز و هتف في وجه الفتي:
- لا .. لا يا بني ، لا تعيد سيرتي
إياك أن تيأس ، إن اليأس هو الموت .. الناس موتي و هم أحياء متي يئسوا ، و انا ميت هنا منذ زمن بعيد ..
- و لكنك مازلت حيا ! لماذا لا تعود و تتوب ؟
فأربت الرجل علي كتف الفتي و قال باسما:
- الموتي لا يعودون إلي الحياة أيها الفتي الطيب
- أنت هنا حكمت علي نفسك بالجحيم و تدعوني للتوبة ، و هم هناك يدعون إلي الجنة و يرفضون توبتي ؟!
- لا تتعجب ، فرب أن يزيد عاصي مثلي المهتدين واحدا ، خير من أن يزيد مهتدي مثلهم العصاة واحدا !
ثم جذب العجوز الفتي من يده و عاود حديثه إليه و لكن في نبرة بها غلظة حانية:
- هيا لا مكان لك في هذا البيت من الآن تب إلي الله ، و عد إلي أهل مدينتك
- أأعود إليهم مجددا بعدما أتهموني بالكفر و طردوني ؟
- أجل ، عد إليهم و أعبد الله معهم بقلبك و بعقلك ، فعسي أن تجد عاصيا بينهم في قلبه ذرة من حب الله ، فترده إلي الله قبل أن يقضي قومك بغلظتهم علي ما تبقي فيه من إيمان ..
(( انتهي ))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق