اليوم أتم الواحد و السبعين من عمري .. أحتفل به وحدي بعد أن فارقتني زوجتي منذ عامين أو يزيد و بعد أن هاجر أولادي و تركوننا منذ أعوام .. و لكن هذا العام زاد من وحدتي ألم المرض الذي ينهش في جسدي و يدك عظمي دكا !
فكرت كيف أقضي ذاك اليوم و أنا علي علتي تلك ؟ فقررت أن أشتري رواية جديدة و أنا من عشاق الروايات فهي تجمع بين الشيئين اللذين يبدوان قطبين متنافرين .. فهي تجمع بين المتعة و الحكمة ! .. و رغم ضعف نظري و آلام جسدي الا أنني عكفت ساعات علي قرأتها .. و بعد أن انتهيت منها أرحت ظهري الي الوراء .. و وضعت رأسي بين يدي .. و أخذت أفكر بعد هذا العمر الطويل ما أفضل رواية قرأتها ؟؟ ما أكبر عبرة أخذتها ؟؟!
و وجدت أن الذي يسيطر عليّ تماما تلك الرواية التي كنت أنا بطلها ! .. نعم فكل منّا له رواية هو بطلها
فالمؤلفون العظام مهما بلغوا من العبقرية في النسج و الاحكام فلابد و أن تتفلت من بين أصابعهم بعض التفاصيل .. فبراعة المؤلف لا تفوق براعة الخالق ذاته ، كما أن واقعية المؤلف لا تتفوق علي الواقع نفسه ! و من هنا كانت رواية الدنيا هي أعظم الروايات .. رواية كل منّا أنا و أنتم .. هو و هي .. هم و هؤلاء .. الناس جميعا ! ..
عادة تشدنا الروايات التي تمس مشاعرنا و نشعر أنها تشبهنا .. تنطق علي ألسنتنا ما لا نجرؤ قوله أو قل ما نعجز عن قوله .. فكيف يكون الحال بالرواية التي أنت بطلها !
و رغم الألم الذي ينفض جسدي الا أن ذاكرتي تبدو بخير .. أتذكر جيدا كل أحداث حياتي و كأنها شريط يمر بذهني دون توقف .. أتذكر يوم أن كافأني أبي لأول مرة .. و يوم أن ضربني لأول مرة .. أتذكر أول راتب حصلت عليه .. و أتذكر يوم أن دق القلب لأول مرة و كانت الأخيرة علي أية حال
و لكن من بين تلك الذكريات المتناقضة بدأت أري حلقات متشابكة تقود لبعضها البعض .. فالطفل الذي أنهره اليوم ليكف عن الصراخ كنت أنا بالأمس ! .. و الأب الذي تركته وحيدا متطلعا لمستقبلي في السفر و أعماني طموحي عن أن أبقي بجانبه فأرعاه - ذلك الأب هو أنا الآن بعد أن هجرني أولادي .. و ذاك الرجل - مديري - الذي وقفت معجبا بشبابي يوما في وجهه بجرأة أقول له أنه ينفرد بآرأه و يقتل فينا نحن معشر الشباب الطموح .. فبعد سنوات طويلة وجدتني مكان ذاك الرجل المستبد كما كان هو و جدت شابا يعيد علي مسامعي ما قلته يوما ! .. كم هذه الدنيا فقيرة ! إنها تطبع من أحداثها ألف نسخة و نسخة تعيدها علي مسامعنا ألف مرة ! .. و كأنها عقرت عن الأحداث فلا تلد جديدا ..
و بالتالي فإنه لابد أنه كما يوجد من تسبه أنت لجهله هنا يوجد من يسبك لجهلك هناك ، وكما أن الميت الذي تبكي علي رأسه اليوم ثم تنساه بعد أن تشيعه لقبره سيأتي يوما يبكون الناس علي رأسك مشيعين بالعبرات الي القبور ثم ينسوك و يعودون للهو و تدور الحياة ولا نتعلم أكبر عبرة .. وهي الفناء و أنه لا خلود
وأنت .. روايتك كاملة تماما بماضيك و حاضرك و مستقبلك .. بأنت و بالآخرين .. بما تفعل و بما لا تفعل .. أنت المحور الذي تدور به الأحداث علي أي حال . روايتك تبدأ من طفولتك البريئة مرورا بشخصيتك و آراءك التي تتبدل بين ثانية و أخري .. تشمل مبادئك التي أكتسبتها و أخلاقك التي تعلمتها .. تشمل أناس عرفتهم و أخرين قد أصبحوا ماض .. تشمل مئات البشر منهم من يشاركك البطولة و منهم من له دور ثانوي و منهم من يلعب دور كومبارس الذي هو لابد منه لاستمرار الأحداث ، و لكن لا تنسي أن الكومبارس في حياتك قد يكون بطل رواية آخري أنت أيضا كومبارس فيها ! .. و لا عجب فتلك دورة الدنيا و تدابير القدر
روايتك هي حياتك عندما تخطيء ثم تتوب .. عندما تندم ثم تعاود الخطأ .. عندما تفشل ثم تنجح .. عندما ترفعك الدنيا لأعلي نقطة فلا تغتر .. ثم تسقط بك لأسفل السافلين فلا تقع .. حياتك عندما تولد و لا تعيش ، و عندما تري الموت وجها لوجه و يكتب لك النجاة .. عندما تتألم فتصبر ثم تسعد فتشكر ، عندما تعرف أنك لا يمكن أن تعرف و تفكر فترفض أن تفكر
كل هذا هو أنت .. هي حياتك صعودا و هبوطا ، هي المنحني الذي لا يتوقف عن السير .. و مع كل صعود أو هبوط عظة و عبرة ، و لو ظل المنحني دائما الي أعلي ستمل العلو ! .. و لو ظل المنحني هابطا ستمل الهبوط فلابد من أن يواصل تغيراته بل و طفراته صعودا و هبوطا تلك هي الحياة
أما أنا .. فصول حياتي تمر بسرعة الآن أما عيني .. فصول الرواية قربت أن تنتهي .. إنني أشعر الآن بأن الفصل الأخير يكتب .. الألم يستشري في جسدي .. ألف خسارة لقد وعيت الي الحقيقة متأخرا جدا ! و أنا في هذه السن العجوز !
ليتني ما أنفقت حياتي في أن أكمل الحلقة التي تنغلق في نهايتها علي كل منّا
ليتني قرأت روايتي قبل ذلك .. إنني الآن أشعر أن روحي تتزح من صدري .. أشعر أن شيئا ثقيلا يتركني .. لا أستطيع أن أدرك شيئا حولي الآن يبدو أن الخاتمة قد كتبت و مشهد النهاية أزيح عنه الستار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق