الأحد، 23 فبراير 2014

الرُصُف .. قصة "مش" قصيرة

الثلاثاء, منتصف سبتمبر

الساعة الخامسة فجرا

اقتحمت أمي حجرتي، وايقظتني بصوت خفيض كعادتها لنصلي الفجر سويا، ثم أعدت الفطور لي قبل أن اذهب إلى عملي ، فعملي في المديرية على بعد أكثر من مائة كيلومتر من قريتنا الصغيرة ، ذلك الأمر الذي يتطلب مني ثلاث ساعات بين السير ، وعبور الجسر الذي يمر فوق المجرى المائي الضيق الذي يفصل قريتنا عن العالم ، ثم استقل حافلة صغيرة أصل بها أخيرا إلى محل عملي.
وأثناء الافطار أمي تقص عليّ أنباء الأربع و العشرين ساعة الماضية ، و أخبار قرية صغيرة كقريتنا لا تعدو أن فلانة خُطِبَت لفلان، أو أن فلانا مريض، أخبار لا تمثل لمثلي شيء إلا أن أمي كعادتها تصر أن تحكيها كل صباح و أنا كعادتي أبدي اهتماما غير حقيقي.
قالت أمي في مقدمة نشرتها الاخبارية:
- مش لقوا عم دسوقي ميت جنب سور الطحين امبارح بليل!
حتى أخبار الموت في وطن يعج بالكوارث كوطننا يصبح خبرا عاديا، لا يهتز له قلب ولا تدمع له عين، إلا أن لوفاة عم دسوقي وقع خاص عليّ، فذاك الرجل الذي قضى عمره بالكامل بلا ماؤى، يعطف الناس عليه لأنه رجل كبير، لكنه ليس له حرفة و لا بيت و لا أهل، القرية كلها تعرفه، وهو كان يعيش على فتات ما يلقيه إليه الناس..

الساعة السابعة صباحا:

في الحافلة المتوجهة إلى المديرية حيث أعمل موظفا حكوميا، و أن تكون موظفا حكوميا هي حرفة صعبة لأنها تتطلب منك مهارة خاصة قد لا تتوافر في كل الناس ألا وهي اللامبالاة .. حسنا لم أكن كذلك و لكني تعلمتها من وظيفتي.
خطر في رأسي هاجسا عجيبا ، إن الليلة هي الليلة الأولى التي سينام فيها عم دسوقي في مكان مغلق عليه لا تتطلع إليه عيون المارة .. قبر مترين في متر، أكرمه الموت كما لم يكرمه أحد من الأحياء من قبل، يالنا من قلوب صدئة متهالكة!
و لأول مرة ألحظ في طريقي إلى المديرية كل هذا الكم من ساكني الرصف، بلا مأوى .. كلهم عم دسوقي.
كلنا نراهم فنمصمص شفاهنا، و أقصى ما يمكن فعله مال ندسه في ايديهم، ثم ننام ساكني الضمير.


الساعة الحادية عشر صباحا:

ترى ما الذي كان يشغل بال عم دسوقي؟، ما الأفكار التي تملأ رأسه ضجيجا في يومه؟ هل كان يشعر بهدف من حياته؟ هل كان متشبثا بالحياة؟ كيف كان يرى مستقبله؟ ترى هل كان يهتم بالصرعات الدائرة على الكرسي؟، ماذا كانت أحلامه و طموحاته؟ ما موقفه من توجه الدولة للرأسمالية المتوحشة؟ هل كان يفضل أن نعود للاشتراكية؟ أيهما أفضل له؟!!.. كفاني هلاوس، كل ما أثق فيه تماما أن عم دسوقي كان أكبر أحلامه و طموحاته أن ينام ليلة مطمئنا أن غدا سيجد رغيفا حاف يأكله..

ستنشق رأسي نصفين من كثرة ما يتزاحم بها، وأكثر من ذلك من ثرثرة زملاء الغرفة، حيث يتبادلون الكلام في كل شيء، لا يمر يوما إلا و تطرح فيه كل أمور الحياة، سياسة وفن ورياضة ودين وموضة واقتصاد ، كلهم يعلمون كل شيء عن كل أمور الحياة، جميعهم يمتلكون حلول سحرية وآراء سديدة.

و أنا في مثل تلك حلقات النقاش ألوذ بالصمت، و إذا سألني أحد أهز رأسي في ايجاب " طبعا
, أكيد, أماال" و هي الطريقة المثلى لتجنب ثرثرة لا طائل منها و لا أحبها.
دارت حلقة النقاش المجتمعي كعادتها، فنطق زميلي:
- احنا شعب عظيم، عمرك شفت شعب عمل ثورتين في ثلاث سنين!
ثم مال عليّ ينتظر مني دعما و تأييدا كعادتي، إلا أني وجدتني أرد و كأني لا أشعر بما أقول:
- إننا شعب متبلد، والأمم المتبلدة لا تثور..
فوجيء بردي و حاول تخطيه، و أنا تظاهرت بالانهماك في العمل و لم أنبس ببنت شفه إلى نهاية اليوم.

الرابعة عصرا:

في الميكروباص، مارا بنفس ساكني الرصف، متذكرا كلمات زملائي عن وطننا ومستقبله المشرق، والشعب العظيم، ووجدتني أسأل نفسي، كيف نطمح إلى بناء وطن و نحن لم نبني الانسان بعد؟، ما جدوى التعليم و الصحة و المسكن و الكهرباء؟ أما كان من الأولى أن نحفظ لجميع ساكني الوطن الحد الأدنى من انسانيتهم أولا قبل أن نوفرلهم الخدمات؟! إن "أنسانة" الانسان يا سادة أهم من تعليمه و صحته و خدمته.
ولكننا اعتادنا أن نعيش مع المأساة حتى تصبح جزءا منّا فنألفها، هذا يفقدنا انسانيتنا بالطبع و لكن هكذا نعيش.
انقطع سيل الأفكار على خبر في الراديو "مقتل الناشط .. من قبل مجهولين، هذا و قد انتقلت النيابة على الفور لمكان الحادث...".

السادسة مساءا:

فوق الجسر، عائدا إلى بيتي..
سيكون وفاة ذلك الناشط حديثا للاعلام كله تلك الليلة ، سيقول هؤلاء أن هذا الشاب قُتل لأن الحكومة لا تطبق شرع الله، بينما سيقول هؤلاء أن ذلك الشاب قُتل لأن الحكومة لا تتيح حرية التعبير، بينما ستقول الحكومة أنها تسير بالتحقيقات على قدم و ساق ليأخذ العدل مجراه لأننا في دولة قانون!، سيزايد الجميع عليه، سيملئون الشاشات بالتنظير و بالتحليل كلٌ يفسر الأمر لصالحه، ولا ينشد أحدهم صدقا الحقيقة.
لو كان وفاة عم دسوقي قضية لأصحاب المصالح، لمتلأت الشاشات بالصراخ و العَبرات حزنا على المرحوم، لو كان في وفاته ما يزيد من نفوذهم أو من أموالهم لأقاموا له جنازة عسكرية، و أقاموا على روحه موائد الرحمن بها صنوف من الطعم لم يذوقها هو نفسه طيلة حياته!!
ولكنه لا أهمية له، لن يجدي نفعا لأحد بموته، فهو لا يستحق حتى أن يثير شفقة أحد..
تخيلت لو انهار بي ذلك الجسر المتهالك الذي أمر من فوقه الآن.. سيتكسب الجميع من موتي تصريحات ينفقونها على أهواءهم و مصالحهم..
رب إني لست متشبثا بالحياة، إلا أني أعوذ بك من ميتة كهذه في بلدة كهذه، كفاهم نفعا بي حيا، فليتركونني أموت في هدوء.

((انتهى))

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق