الجمعة، 21 ديسمبر 2012

طريد الجنة .. قصة "مش" قصيرة

في تلك المدينة النائية حيث يجري دين الله بين الناس ، يتوارثونه جيل بعد جيل منهم من يرثه عن فهم ، و منهم من يرثه مع ما يرث من والديه من أثاث و مال .. و كان هذا الذي لم يكمل عامه العشرين بعد مسرفا في خطاياه و ذنوبه ، لم يؤد فريضة قط .. إنه بعيد عن الله أبعد ما يكون ، فكان إذا ما ذكر اسم الله أمامه لا يلقي له بالا ، فهو كان يكاد أن ينكره

و لكن لله أمور لا يعلمها إلا هو ، فقد بدأ يدب في قلب الفتي نورا ، أن يبحث أكثر عن الله ! ، ليس ذلك الأسم الذي أعتاد قومه أن يعبدوه ، و إنما يبحث عن الخالق المستحق للعبادة عن فهم و إيمان و عقيدة
و لكن القدر لم يمهله فقد قبض عليه يوما مخمورا ،  فقُدم للمحاكمة أمام رجال الدين ، فأقاموا له محاكمة قاسية جهر خلالها بأفكاره .. فلم يناقشوه و لم يمنحوه فرصة يدافع عن نفسه أو يتوب ، و إنما قضي عليه بأنه آثم ضال لا يصح له توبة ، و حكم عليه بالخروج من المدينة معزولا منفيا

خرج الفتي من المدينة لا يعلم إلي أين يذهب ، هل قُضي عليه الموت ؟ ، هل لفظه الدين بعد أن كاد أن يصل ؟ هل رفضه الله بعد أن كاد يدركه بقلبه قبل عقله !!
سار هائما علي وجهه حتي وجد منزلا محاط بالصحراء من كل جانب ، فتقدم ببطيء و طرق الباب ، فإذا برجل قد أفناه الزمان يفتح الباب و لم ينتظر أن يتكلم الفتي ، فأشار له بالدخول.

لم يجد الفتي مناص من أن يدخل مهما يكن من أمر الرجل فهو البديل الوحيد للموت . و ما أن دخل الفتي حتي أخذته الدهشة فقد وجد ذلك العجوز عاكفا علي الخمر ، بيته لا يوحي بأي مظهر من مظاهر الصلاح ، فقطع الرجل تأملات الفتي قائلا:
- لابد أنك طُردت مثلما طُردت أنا من عشرين عاما !
- نعم لقد طردني أهل تلك المدينة دون أن يستمعوا إلي دفاعي حتي ..
- أعرفهم جيدا لا تبتئس و لا تحزن .. ثم صمت برهة و عاد يقول بصوت متهدج: و ماذا ستفعل الآن؟
- سأبقي هنا ..
- بل ، لابد أن تعود إليهم و تتوب إلي الله

تملكت الدهشة قسمات وجه الفتي و قال:
- أنت الذي تنصحني بذلك ؟ ، لقد رفض أهل الدين أن يمنحوني تلك الفرصة
- لا وصايا لأحد علي دين الله ، فدين الله فقط لله ، توب إليه و هو سيقبل توبتك إن كانت صادقة
- و لكن .. كيف تنصحني أنت أيها الشيخ الفاني و أنت ..
- و أنا عاصي أليس كذلك ؟
- حقا !!

اعتدل الرجل في جلسته و أراح ظهره إلي الوراء و قال:
- لا تتعجب فكي يدخل مثلك الجنة لابد لمثلي أن يدخل الجحيم !! .. و لو أن أهل الأرض جميعهم أمنوا وعملوا الصالحات و دخلوا الجنة فما جدوي الدنيا ؟
- ما أعجبك ! و هل تنتظر مني أن أسمع نصيحة من مثلك ؟ ، فأنت قد عصيت الله فطُردت مثلي فلما لم تتوب ، و ما جدوي توبتي الآن ؟
انزعج العجوز و هتف في وجه الفتي:
- لا .. لا يا بني ، لا تعيد سيرتي
إياك أن تيأس ، إن اليأس هو الموت .. الناس موتي و هم أحياء متي يئسوا ، و انا ميت هنا منذ زمن بعيد ..
- و لكنك مازلت حيا ! لماذا لا تعود و تتوب ؟

فأربت الرجل علي كتف الفتي و قال باسما:
- الموتي لا يعودون إلي الحياة أيها الفتي الطيب
- أنت هنا حكمت علي نفسك بالجحيم و تدعوني للتوبة ، و هم هناك يدعون إلي الجنة و يرفضون توبتي ؟!
- لا تتعجب ، فرب أن يزيد عاصي مثلي المهتدين واحدا ، خير من أن يزيد مهتدي مثلهم العصاة واحدا !
ثم جذب العجوز الفتي من يده و عاود حديثه إليه و لكن في نبرة بها غلظة حانية:
- هيا لا مكان لك في هذا البيت من الآن تب إلي الله ، و عد إلي أهل مدينتك
- أأعود إليهم مجددا بعدما أتهموني بالكفر و طردوني ؟
- أجل ، عد إليهم و أعبد الله معهم بقلبك و بعقلك ، فعسي أن تجد عاصيا بينهم في قلبه ذرة من حب الله ، فترده إلي الله قبل أن يقضي قومك بغلظتهم علي ما تبقي فيه من إيمان ..

(( انتهي ))

الأحد، 2 ديسمبر 2012

عصر اللا أنبياء ح 1 .. الأصنام !


يراودني تساؤل دائم حول أحوالنا في هذا العصر ، إن أهم ما يميز عصرنا هذا أنه لا يعيش بيننا أنبياء ، بل و إننا نعلم أنهم لن يأتوا و أن عصر الأنبياء قد انتهي ! ، فإن هذا يفتح لنا أبواب من الإجتهاد و من التأمل ، فربما وجودهم كان سيفسر لنا أمور كثيرة و سيحسم لنا أمور أخري ، إنها سلسلة من المقالات نتناول فيها بعض جوانب ذلك العصر ، عصر اللا أنبياء ..


الأصنام !


لو كنت من هواة التصفيق و العشق المطلق سواء لإنسان أو شيء مادي أو حتي فكرة و رأي ؛ فلا تكمل معي بعد هذه الكلمة ، فربما كلماتي لا تروق لك فأنا أتحدث إلي الباحثين عن الحقيقة ، فهي هواية ليست سهلة تحتاج مجاهدة النفس قبل مجاهدة العقل .. و إن أشد أنواع الجهاد لهو ذلك الجهاد الداخلي بينك و بين نفسك ، و بينك و بين عقلك ، لا ذلك الذي بينك و بين الناس.
و لذلك كان قول الرسول الكريم: "ليس الشديد بالصرعة ، و لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب"

فما ارتفع الإنسان مكانة بين المخلوقات جميعا إلا لتلك المقدرة ، فالحيوانات جميعها تتناحر جهادا في سبيل الطعام و الجنس و الأمان !
فإن تناحر الإنسان حتي و لو كان من أجل فكرة فهو هبوط نوعي إلي درجة من درجات الحيونية ، فلا توجد فكرة حقيقة بالتأييد المطلق .. ثم إن التناحر هي لغة القوة لجأ إليها الحيوان لأنه يفتقد العقل ، فجسده هو كل ما يملك كي يدافع عن أفكاره المادية - الشهوات - فيُفني الغير ليحافظ عليها .. أما و إن خاطبنا العقل فهي لغة الإقناع و الحجة و يمكنك أن تجعلني أعتنق فكرتك إن أثبتَّ لي صدقها ، وكذلك العكس.

إن للأفكار شهوة مثلها مثل الطعام و الجنس أعرف هذا تماما ، نحن فطرنا علي أن نشتهي الشيء و إلا زهدنا فيه !
و من هنا كان البحث عن الحقيقة وسط أصوات الحمقي من جهة و أهواءك أنت الشخصية من جهة آخري مسألة لا تتيسر إلا لمن يدأب التجرد من أهواءه. هل لي أن أخبرك بسر قد لم تلتفت إليه يوما ، هل تعلم أنك لا تنتمي إلا نفسك ؟! نعم انت لا تنتمي لفكرة أو دين أو وطن إلا لأنه يعبر عنك ! لأنه التيار الذي لقي في نفسك هوي و وافق عقلك.

فانت تحاول دائما إثبات أنك ( او ما تنتمي له ) هو عين الصواب و أن الباقين مساكين لا يدركون الحقيقة التي أدركتها أنت بألمعيتك و ذكاءك ! ، شد ما تكون علي باطل إن جرفتك نفسك لهذا الشعور. فإن الأفكار جميعها صوابا و خطأ و لكن كل شيء صحيح إلي حد ما ، خاطيء إلي حد ما ..
لا يوجد حزب أو فصيل أو فئة دائما علي صواب ، و لما كان الأنبياء معصومين من الخطأ فكان ذلك بقدرة ربانية لا يمنحها الله إلا فيما ندر لحكمة معينة في زمن محدد ، بعد ذلك فكل شيء قابل للجدال و النقاش ، و كل إنسان يخطيء و يصيب.

و لكننا الآن في عصر اللا أنبياء ، و في مثل هذا الزمان لا يمكننا ان نتعيين الحقائق علي وجه الدقة و إنما فقط يكفينا ان نتحسس موضع من مواضع الحقيقية فلا نعلم إن كان قد هدانا الله لها أم لا !

فصراع العقل مع النفس هو الصراع الحقيقي للإنسان لا تلك الحروب الشعواء و لا ذلك العراك الهمجي ، والعقل الواعي هو القادر علي احترام الفكرة و لو لم يؤمن بها كما يقول أستاذنا نجيب محفوظ . فاحترامك للفكرة لابد و أن يسبق إيمانك بها ، لأن الاحترام وعي فإن أمنت بلا وعي فهي عقيدة مزعزعة تدفعها الأفكار الأخري لمنطقة التناحر لا تسمو بها للنقاش العقلي الهاديء.
إربأ بنفسك أن تذل قدميك في صراع لا يسمن و لا يغني  من جوع تكن دائما من جنود الحق.