الجمعة، 18 مايو 2012

الغرباء .. قصة "مش" قصيرة

إحدي ليالي أغسطس القاهرة الحارة .. بعد منتصف الليل .. يقضي الأصدقاء الستة ليلتهم الأخيرة معا بناءا علي طلبهم وذلك قبل تنفيذ حكم الاعدام فيهم ... 
الأصدقاء جالسون في شكل مستدير كما أعتادوا أن يجلسوا .. الصمت يخيم عليهم و الكلام فقط بالأعين هكذا أعتادوا أن يتكلموا .. و لو سألتني عما يجمع بين هؤلاء الستة ليكونوا أصدقاء لأجبتك بالحيرة و الدهشة .. فمنهم الغني و منهم المعدم .. و منهم المتعلم و منهم الجاهل .. ومنهم الذكي و منهم التافه .. و رغم تلك المتناقضات الكفيلة الواحدة منها للتفريق بينهم الا أنه لابد أن هناك شيء أقوي قد جمع بينهم !

الأصدقاء الستة لا تستولي عليهم أي لحظة حزن و لا خوف من الحكم الصادر بشأنهم .. هم جالسون في هدوء و عدم اكتراث بأي شيء حولهم .. فقط تدور في أذهانهم تلك الذكريات المتناقضة التي جمعت بينهم 
يتذكرون الفجر الذي كانوا يصلونه في جماعة .. و يتذكرون العربدة و الآثام التي اجتمعوا حولها .. يتذكرون ليالي جمعتهم علي روايات نجيب محفوظ و احسان عبد القدوس .. و يتذكرون ليالي جمعتهم في سب هذا و ذاك

الأصدقاء الستة لم يكونوا يقيمون لأي شيء وزنا .. لا يحبون المال و لا الشهوة .. لا يشعرون بلذة في العمل و لا الراحة .. في النجاح و لا الفشل ! .. يبدو أن هناك شعور طغي علي كل هذا ! .. إنه شعور بالغربة ! 
و أسواء ألوان الغربة لا أن تكون غريبا عن وطنك و لا أن تكون غريبا عن أهلك .. و لكن أن تكون غريبا عن نفسك .. غريبا عن رائحتك و غريبا عن ملمس جلدك .. و غريبا حتي عن حياتك و واقعك .. كأنك تحيا حياة لشخص آخر

الأصدقاء الغرباء جمعتهم الغربة في أوطناهم .. والاحساس باللا انتماء .. ربما كان هذا الدافع الحقيقي لمكوثهم خلف القضبان هكذا ! .. فقد قرر الأصدقاء في لحظة بدون سابق تفكير أو تروي أن يؤدوا دور المجتمع في العدالة
فكانوا يهاجمون أصحاب المصانع المستبدين ينبهوا مساكنهم ليوزعوا ما نهبوا علي العمال المساكين ! .. كانوا يسرقون الموظف المرتشي ! .. كانوا يساعدون الطامحون في الخير ليحقق كل ذي طموح ما طمح اليه .. و يقفون في وجه الطامعون ليرد كل ذي طمع ما طمع فيه !

استمروا علي نهجهم لسنوات ! و الغموض يحيط بتلك الحوادث .. و الصحف تتكلم عن تلك العصابة ! .. لم يكونوا يبالون بما يقال عنهم خيرا أو شرا .. لا يلقون أسماعهم لمن وصفهم بالمجرمين و لا لمن وصفهم بالمرضي .. و عندما ألقي القبض عليهم لم يحالوا الهرب ولا حتي تبرير مواقفهم .. و قابلوا كل ما واجهوه من تهم بالصمت .. حتي رفضوا أن يكون لهم محام 
و لكن المحكمة أنتدبت لهم محام في سن الثلاثين .. يفوقهم سنا ببضع سنوات ..

تلك الأفكار ظلت تدور في رأس هؤلاء طوال ساعات الليل في ليلتهم الأخيرة داخل محبسهم حتي بزخ النهار و هم يتذكرون حكم المحكمة و القاضي يردد " حكمت المحكمة علي المتهمين الستة بالاعدام لما أثاروه من رعب و فوضي في البلاد و لخطورتهم الشديدة علي المجتمع " و قد استقبلوا الحكم بضحكات مكتومة .... 
و ظلت آخر كلمات تتردد في آذانهم هي نهاية المرافعة العصماء للمحامي و هو يقول : " لن أدافع عن جريمة .. و لا يمكن أن أطالب ببراءتهم .. و لكن يا سيادة الرئيس إذا كنت تريد تطبيق العدل فأين العدالة ؟ .. إن هؤلاء الغرباء الصامتين تاهوا عن أنفسهم في زحمة مجتمع مادي مشوش .. إن المجتمع الذي يهتم بالمظاهر و يهمل الانسان في مضمونه هو مجتمع مقلوب هش .. سينهار يوما علي من بداخله .. إن مجتمع يحكمه المادة و القوة و يُسمع فيه من يعلو صوته و لو بالباطل هو مجتمع ظالم و ضعيف .. إن المجتمع الذي تُسفًّه فيه الفكرة و يُدفن فيه العقل هو مجتمع مخيف .. هو مجتمع مجنون ... !!"

الاثنين، 7 مايو 2012

بحكم العادة ..

بحكم العادة استيقظ من النوم , و بحكم العادة أتناول الإفطار حتي و لو لم أكن جوعانا - أو العكس ربما - , و بحكم العادة أتأخر علي صديقي الذي ينتظرني كل يوم لنذهب للجامعة سويا , و بحكم العادة أبتسم في وجه أصدقائي و إن لم أكن سعيدا , و بحكم العادة يسعد القلب اذا رأيت من أحب , و بحكم العادة أخلد الي النوم اذا عدت الي منزلي و لو لم أكن متعبا , و بحكم العادة أسخط من أوضاع الوطن و أوجاعه
انها ليست قصتي وحدي انها قصتكم جميعا أيها الأعزاء ... 

فبحكم العادة تنام و تستيقظ .. و بحكم العادة تحب و تكره .. و بحكم العادة تسعد و تحزن .. و بحكم العادة تحيا و بحكم العادة تموت ! .. بحكم العادة تقول نفس الكلام .. و بحكم العادة تسمع نفس الكلام .. و بحكم العادة تقرأ لي هذه السطور رغم الملل الذي أصابك .. و بحكم العادة أكتب هذه السطور رغم الملل الذي أصابني ! .. الملل أصابني و أصابك و لا شيء يدفعنا للاستمرار الا العادة  !

كلنا لدينا الكثير من العيوب التي لا ترضينا .. كلنا لدينا واقع نود لو أن نغيره أو حتي يغيرنا ! .. قل لي لماذا لا نغير أنفسنا ؟ لماذا لا نغير واقعنا ؟ .. سألني صديقي هذين السؤلين فأجابته إجابة الواثق " بحكم العادة " : لأننا نعيش " جوه " أنفسنا .. أنت هو أنت و إن لم ترضي عن أنت !
إن الحياة عندما تسيطر علينا تصبح شديدة الملل .. و أن تعيش سجينا داخل نفسك و داخل حياتك التقليدية لهو دافع لأن تشعر بالقرف .. لهو دافع للانتحار !

إن الحياة بدافع التعود وحده يجعلك تعيش و تعيش و تعيش .. و لكن من دون أن تشعر إنك علي قيد الحياة .. فكل شيء بالتعود يفقد قيمته .. لو أنك تسكن في بيوت من الذهب لما راق إليك منظره .. و لو أنك تتنفس رائحة العطر لما طابت إليك رائحته .. و لو أن كل ما تشتهيه تجده أمامك لزهدت فيه بكل تأكيد !
إن حياة نحياها بدافع من العادة فقط هي حياة منقوصة بكل تأكيد .. هي مملة .. هي لا تستطيع أن تمنحك الرضا و لا تستطيع أنت أن تنتزع منها السعادة

أنت لا تستطيع أن تغير شيء ما دامت تعيش داخل هذا الشيء .. فإذا أردت أن تغير ما تكره في نفسك فعليك أولا أن تخرج خارج نفسك .. و لن تخرج خارج نفسك إلا بأن تتمرد علي العادة ... و لن تتمرد علي العادة إلا عندما تشعر إنك حر
و حريتك تلك لابد و أن تكون مسئولة .. فالحرية غير المتبوعة بمسئولية هي الفوضي ... فالله خلقك حر في عالم تحكمه قوانينه

التمرد .. لا يمكن أن تتمرد علي نفسك قبل أن تفهم التمرد أصلا
فالتمرد معناه اللغوي العصيان و الخروج عن الأمر .. و هي ليست ثورة .. فالتمرد ثورة من أجل النفس و لكن الثورة هي تمرد من  أجل الآخرين !

و لن تخلع عن نفسك ما تعودت عليه و أسرت فيه الا عندما تعرف حدود ذلك الأسر .. ما الذي يربطني بتلك العادة ؟ و من الذي فرض عليّ هذه العادة ؟ .. و لو تعلمون كم يُلح علي رأسي هذا السؤال ! من الذي فرض المفروض ؟ من الذي وضع القانون الذي نسير بين قيوده ؟ .. المسألة لا تبدو أبدا معقولة لو كنا نسير في طرق رسمها لنا غيرنا .. من الغباء أن نردف في أغلال سمحنا لغيرنا أن يفرضها علينا و نحن بإمكاننا أن ننطلق وثبا !

الإنسان يقضي نصف عمره يتردد في أن يصلح عيوبه و يقضي نصفه الآخر نادما علي ذلك ! .. و يضيع العمر و نحن علي حالنا .. أو قل علي عادتنا لا جديد في حياتنا إلا الشكوي .. من الزمان .. من الأصدقاء .. من الأهل .. من الحياة .. نشكو من كل العقابات و نحن أكبر عقبة أمام أنفسنا !
إننا بكل وضوح نحتاج إلي صدمة ! .. اليابانيون لم يدركوا خطر الفناء الا بعد الحرب العالمية الثانية .. عندما وجدوا قنبلة نووية تسقط علي رؤسهم بأسم الحريات الأربعة أدركوا أنهم معرضون للإبادة كما تُباد خلايا النمل ! .. في هذه اللحظة فقط استيقظوا و علموا أن عليهم الانتقال من مرحلة مصمصة الشفاه علي حالهم الي مرحلة الدق باليد و العمل 

و أنت أيضا في حاجة الي صدمة .. و الإنسان الذي يظل حبيسا في قوقعة عادته ليس له فعل الا الكلام هو نصف حي .. و في الحقيقة لا يوجد أنصاف أحياء .. فإما أن تختار أن تعيش الحياة بالحرية المسئولة .. و إما أن تختار أن تموت و أنت علي قيد الحياة ! .. لا تيئس و لا تخشي شيئا .. إنها دعوة الي التمرد و أعتبروني محرضا إذا .. لا تحول كل شيء في حياتك إلي عادة .. الي ذلك الشيء الأتوماتيكي تفعله بلا فكر و بلا روح و بلا نية و بلا تدبر .. لا تصنع من نفسك آلة أو ماكينة .. فأنت أعظم من أن تكون آلة .. أنت إنسان 

كلمتي الأخيرة لنفسي قبل أن تكون لك .. إن كل ما نحتاج هو قرار جريء يتخذه قلبا مفعم بالإرادة و مفتون بالحرية .. نحتاج قلبا صبره لا ينفذ و أمله لا يزحزح .. نحتاج نفسا مطمئنة عارفة بربها .. تحلق بعيدة عن إطار جسدها الضيق في حرية و تصبو إلي بارئها في أمل و تدبر .. فقط من هنا طريق التمرد علي العادة