الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

المُعَلَّقُونَ فِي الهَوَاءْ .. قصة "مش" قصيرة

على الرصيف المقابل للشركة التي يعمل بها ، وقف صاحبنا في انتظار " الميني باص " ليعود إلى بيته .. و في انتظاره وقف يدقق النظر في من حوله .. هم يشبهونه و هو يشبههم ، ليس فقط يشاركهم وحدة الزي ، و لا وحدة الشكل و الأصل ، بل وحدة الماضي و المستقبل ، هو و هم جميعهم .. أناس عاديون !

ركب صاحبنا " الميني باص " و أخذ يغرق في تأملاته التي تخفف عنه حدة الحر و التعب ، أخرج كتابا صغيرا من حقيبة يده و حاول القراءة و لكن التعب يغلبه .. فأعاد الكتاب إلى الحقيبة ، و عاد إلى تأملاته ..

غرق في بحر نوستالجيا لا أول له و لا أخر .. يتذكر يوم أن كافأته أمه لأول مرة لأنه "طلع الأول على مدرسته" ، و أول يوم ضربه والده لأنه يضيع ساعات أمام مباريات كرة اليد تاركا مذاكرته و مستقبله ..
 كم كان يحزن لأنه يضطر أن يخبأ الروايات تحت وسادته حين ينام ، ثم يدسها في حقيبة مدرسته قبل الذهاب للمدرسة حتى يخفيها عن أعين والديه .. لم يكن يحب أن يخفي عنهم شيئا و لكنهم عن قصد أو عن غفلة أجبروه أن يفعل ذلك ..

يتذكر كم تخيل نفسه كاتبا مشهورا يوقع كتبه بين ألآف المعجبين ، و كم تخيل نفسه لاعب كرة يد عالمي يحقق لمصر ميدلية أولمبية ، كم تخيل و كم تخيل .. و لكنه انتفض من بين كل تلك الذكريات و ردد معزيا نفسه "ياللا ، محاسب في شركة كمبيوتر شغلانة محترمة برضه"

كانت تأملاته قد خانته فأضاع المحطة التي ينزل فيها ، فنهض مسرعا ليلحق المحطة التالية فهو مجهد بما يكفي لن يقوى على المشي لبيته مسافة كبيرة .. وأثناء نزوله الى المحطة التالية تذكر كم كان يمشي من بيته إلى الجامعة غارقا في تأملاته في روايات يوسف السباعي و نجيب محفوظ .. "حقا الزمان يمشي فوق كل شيء" قالها و نزل ..

سار عائدا إلى بيته يحلم بالغداء و النوم ، و إذا به يجد رجلا في مثل عمره تقريبا يستوقفه مناديا له:
- عمر !!
فيتوقف عن السير متأملا في وجه المنادي لا يتبينه .. فيتتعتع في الكلام و لا يجد ما يقوله .. فيصمت ، يعود المنادي:
- ألا تتذكرني ؟؟ أنا أسامة .. أسامة عاصم !

أسامة ! .. لقد كان أحد أصدقاءه في أيام الثانوية و أول أيام الجامعة قبل ان تقل العلاقة تدريجيا و تختفي بعد التخرج .. يقول عمر لنفسه " ما لهذا الماضي .. يلاحقك اليوم بكل تفاصيله !! " ، ثم يبتسم و تتزاحم العبارات في رأسه و في ثواني يجمع شتات نفسه و يضع يده في يد صديقه مرحبا به ..
دعا الصديق القديم صاحبنا ليجلسا سويا و يتحدثا قليلا ، و رغم أن صاحبنا كان متعبا للغاية إلا أنه قبل الدعوة .. ثمة شيء غريب يدفعه إلى الماضي اليوم دفعا ..

 اتجها الصديقان إلى قهوة قريبة من مكان ذلك اللقاء القَدَري و جلسا متقابلين:
-"قل لي .. أين كتبك يا أستاذنا ؟" قالها الصديق القديم مداعبا مستعيدا ذكرياتهما سويا ، فاجأ السؤال صاحبنا الذي بدا مغتما و قال:
- لم يعد هناك كتب و لا أستاذنا .. أصبحت كما ترى موظف .. فقط موظف

فتسائل الصديق القديم بلهفة:
- كيف توقفت عن أن تكتب؟
- الحياة !! .. لقد درست و دخلت الجامعة ، ثم إلى الوظيفة من أجل أن أبني مستقبلي ، ثم تزوجت و الآن أنجبت.. فعلت كل ما كان يريده الآخرون .. ما كان يريده أبي و أمي و العائلة و أصدقائي و الجيران .. فعلت مثلما يفعل الآخرون !
- و لماذا تركت حلمك ؟
يضحك و مرارة الكلام تألمه و يقول:
- كنت إذا حدثتهم عما يطمحون لي و عما أطمح لنفسي يقولون "ما كل الناس بتعمل كده .. الواحد لازم ياخد الشهادة و بعدين الوظيفة و بعدين يفتح بيت .. الناس الطبيعيين كلهم كده" .. يصمت برهة ثم يخرج تنهيدة عميقة قائلا: تنازلت عن أحلامي و أشتريت وهما اسمه " الانسان العادي" !

فيبدي الصديق القديم الأسى مشاركا صديقه:
- صحيح قولك .. الانسان منّا يضيع وقتا طويلا من عمره و جهده في سبيل الوظيفة و الزوجة و الأبناء .. لكي يسير في طريقا رسمه له مسبقا مجتمعه .. و لكن ..
يقاطعه صاحبنا قائلا:

- بكل أسف .. إننا قد نبذل مجهودا مضاعفا لمجرد أن نصبح أناسا عاديين ! .. ماذا لو خرجنا خارج الطريق؟؟ .. قد نكتشف أننا في حاجة لعناء أقل لنصبح أناسا أعظم !!
 - و لكنك لا تعيش وحدك يا صديقي .. تذكر ذلك جيدا

يمتعض صاحبنا من كلمة صديقه الأخيرة و ينفعل قائلا:
- و تذكر جيدا أيضا أن تلك حياتك أنت وحدك ، و انت الذي تعيشها كلها وحدك ، لا يشاركك فيها أحد من بدايتها إلى نهايتها غيرك .. و تذكر جيدا أيضا أنك لا يمكن أن تكون غيرك ، فإما أن تكون نفسك أو لا تكون شيء ..

يهدأ قليلا و صديقه القديم يظل صامتا مقدر حالة الانفعال التي بها صديقه .. فيعود صاحبنا و يتسائل بمنطق سليم:
- ثم قل لي .. من هو ذاك الانسان العادي ؟؟ ما تلك صفاته ؟؟ هل هو حاد الذكاء أم متوسط أم غبي ؟ هل هو طويل أم قصير ؟ هل هو اجتماعي أم انطوائي أم بينهما ؟؟ .. قل لي من الذي فرض المفروض ؟ و جعل ذلك "العادي" معتادا ؟ و هذا "الطبيعي" طبعا ؟؟ .. أجبني !!

يحاول الصديق القديم أن يثني صاحبنا عن ثورته و لكن صاحبنا يكمل قائلا:
- أتعرف لماذا نحن مجتمع من الفاشلين ؟؟ لأننا جميعا معلقون في الهواء .. لم نصل إلى سماء أحلامنا و لم نهبط إلى أرض واقعنا .. إننا في أمس الحاجة إلى ثورة ..
ثم ينهض صاحبنا واقفا و تبدو عليه ملامح الاصرار و يقول:
- أنا سأبدأ من جديد سأعود إلى قلمي ..

بعد ان ودع صاحبنا صديقه القديم على وعد بتكرار اللقاءات ، عاد إلى بيته مفعما بالحماس ناسيا التعب الذي كان يعتريه ، يدخل من باب بيته إلى حجرته ممسكا قلما و ورقة ..
يحاول أن يبدأ .. لا فكرة في رأسه ! ، و إن وجدها لا يعرف كيف يكتب !، و ان حاول نسي كل المصطلحات التي يعبر بها !، لا شيء على الاطلاق فقد تاه بداخله هذا الكاتب الألمعي الموهوب ، تاه في زحمة الحسابات و الأرقام و مصروف البيت و الترقية و العلاوة و لبن الأطفال و و و و ..
تاه صاحبنا عن نفسه و بات من الصعب حتى أن يجدها .. فترك صاحبنا القلم و ضحك بحسرة ضحكة عصبية و ردد لنفسه: " إننا المعلقون في الهواء .. "


(( انتــــــهــى ))