العنوان كان لاحدي حلقات برنامج "العلم و الايمان " للدكتور مصطفي محمود رحمه الله .. كان يتحدث فيه أنه يمكن أن نصل بمقاومة أي مادة للصفر عند التبريد الشديد تحت ظروف معينة و هو ما يترتب عليه طفرة علمية هائلة كأختراع القطار الطائر مثلا !!. الحلقة جذبتني بشدة و عندما شاهدتها مجددا في هذه الأيام تذكرت يوم أن شاهدتها لأول مرة في مركز العلوم و التكنولوجيا عندما ذهبت في زيارة مع المدرسة
و بعيدا عن رتابة الحديث عن الذكريات و المحتوي العلمي البحت الذي تتحدث عنه الحلقة .. فانها أشعلت في رأسي أفكارا و أفكارا .. اذا كانت للمادة مقاومة فهل للانسان أيضا مقاومة؟ .. بالفعل له مقاومة .. مقاومة داخلية من المناعة و مقاومة خارجية جعلته يخترع السلاح و يبتكر أساليبا للمقاومة ! .. و لكني لم أكن أقصد حتي هذا النوع من المقاومة .. خطر بذهني مقاومة اخري مقاومة للنفس ومطامعها ... فدعاة الدين و علماء النفس و الفلاسفة ما أختلفوا في غايتهم و ان اختلفوا في وسيلتهم و طرقهم .. و ذلك عندما دعو جميعهم لكبح جماح شهوات الانسان و رغباته القاتلة .. عندما دعو الي الأخلاق و المثل العليا
هذه الأفكار قادتني ان ما يميز انسان عن غيريه المقاومة ! .. نعم كأننا أجهزة كل منا له مقاومة .. و لكن الأجهزة الكهربائية تقاوم شدة تيار الكهرباء و نحن نقاوم شدة تيار الدنيا .. شدة تيار الرغبات و الشهوات ! .. و من هنا يُقاس الفرق بين انسان و اخر كما يٌقاس فرق الجهد في الأجهزة !
و بعيدا عن هذا التشبيه يحسن القول أن الانسان عالي الخلق حسن الطباع عندما يكون قادر علي مقاومة تعصبه و طمعه .. لا تحسبن أن الانسان يمكن أن يصبح ملاك .. لا يصيبه الغرور و لا الطمع و الأنانية و لا القسوة .. و لا تمر برأسه أفكار الشر و الكراهية ! .. فهذا لقاح لابد أن يصيبنا جميعا يا عزيزي .. و لكن أصحاب الخلق هم أولئك الذين يحسنون المقاومة .. فأصحاب الشأن و الصعاليك كلهما أحب نفسه و عرف الشر و تساوي في الاغراءات التي قدمتها له الدنيا .. لكن الأول قاوم و صبر .. و الثاني استنجاب و انحدر
فما بالكم ان وصلت المقاومة عند الانسان الي درجة الصفر .. شخص لا يقاوم نفسه في أي شيء !! .. أعتقد أنه أصبح كالحيوان تحركه الغرائز و تدفعه رغباته التي تمليها عليه نفسه .. و العقل الذي هو مصدر المقاومة أصبح لا وجود له أصبح صفر !! .. و هكذا قد يعود الانسان الي بهيميته و بدائيته .. في هذا الطريق يسقط الانسان
وفي الواقع ان مسألة المقاومة و علي الرغم من اختلافها من فرد لآخر أو بعبارة أكثر دقة من عزيمة فرد لعزيمة آخر فهي تخضع لعوامل عدة .. فان كل منا يمتلك بداخله الخير و الشر .. فلا شك ان الدوافع الانسانية اما للارتكاب الاحسان و الخير أو لارتكاب الذنب و الشر موجودة بداخل كل منّا .. فلا أحد يولد علي مهد الذنوب و لا أحد يرضع القبح و الشر !! .. و انما الأصل في الانسان الخير .. و لكن قدرة الانسان علي ترويض نفسه هي صفة مكتسبة أصيلة .. ترجع الي رغبة الانسان أصلا في المقاومة من عدمها
فيمكننا القول أن الذين يسكنون في قمة الدنيا و الذين يغوصون في قاعها .. في الحقيقة يمتلكون صراع داخلي .. هو صراع الطبيعة .. بين الأخلاق و عدمها .. بين الخير و عدمه .. لأنه في الحقيقة الشر شيء لاوجود له و انما هو انعدام الخير ذلك الذي نطلق عليه نحن شرا !! .. وعلي هذا فان المقاومة أصلا هي مقاومة الخير للشر .. بل انها مقاومة حتي الأمل لليأس .. مقاومة كل ما هو ايجابي في وجه كل ما هو سلبي !!
و دور الانسان في تلك المقاومة هو الأهم لأنه هو صاحب العقل و المنطق و الحجة دائما ! .. هو الذي لديه أسباب المقاومة و مبررارت الاستسلام في كل لحظة ! .. و فقط ارادته و لا شيء آخر هي التي تحدد ما اذا كان يريد المقاومة أم أنه يؤثر الاستسلام في وجه مغريات الدنيا .. و لكن أحيانا نغالب الدنيا حتي تغلبنا فهي مرهقة و بشدة فقد نضعف أحيانا و لكن الأهم ألا تأخذنا الرغبات في طريق اللاعودة .. لا بد من العودة سريعا الي كفاح المقاومة !
ولهذا كان كلنا انسانا .. فُطرنا متساوين .. رصيدنا في الحياة بل و حتي في الآخرة أيضا صفر .. و نحن أولئك الذين يسطرون كتبهم التي يحاسبون عليها .. نملأ صحفنا التي تٌنشر بأسمائنا .. فكلنا محسن و كلنا مسيء .. كلنا له سقطاته و كلنا له احسانه .. فليس منا ابليسا ولا شيطان و ليس منا نبي و لا عذراء .. كلنا يا حضرات السادة .. أنا و أنتم .. هو هذا الانسان !!